ي نوفمبر/تشرين الثاني 2017، أفاق الجزائريون على صوت شاب يطلق صرخة غضب، جرّاء إحباطه من الأوضاع التي آلت إليها البلاد، كما يقول “نبكي عليك يا بلادي حبوّا يغرقوك كي التيتانيك” – أبكيك يا بلدي، يريدون إغراقك مثل سفينة تيانيك، يردّد، أنس تينا، في فيديو نشره على يوتيوب، ترافقه خلفية موسيٍقى من فيلم تيتانيك الشهير.
في أيام قليلة، بلغ عدد مشاهدي “راني زعفان” – أنا غاضب – عدّة ملايين.
سبق هذه الصرخة “ما نصوتيش” – لن أنتخب -، لشاب يسمى ديزاد جوكار.
احتوى التسجيلان اللذان ذاع صيتهما تعبيرات قوية رافضة لسياسة السلطة الحاكمة في الجزائر أعادت طرح مواضيع الفساد والعلاقة المتوترة مع قوات الأمن والبطالة والتهميش.
لكن، بقيت الصرختان حبيستي العالم الافتراضي، في بلد لم يمنع فيه الاحتجاج فحسب بل حظر فيه مجرد التجمع، منذ نحو عشرين عاما، قبل أن تنفجر فجأة في الثاني والعشرين من فبراير/ شباط الماضي في شكل احتجاجات غير مسبوقة فتحت الباب على مصراعيه أمام بوادر تغيير حقيقية، في أعلى هرم السلطة، على الأقلّ.
ويوضح الصحفي الجزائري، أكرم بلقايد، في حديث لبي بي سي، أن “الشبان بدأوا بالاهتمام بالسياسة بفضل انتشار شبكات التواصل الاجتماعي”، لكنّ حاجز الخوف أجّل لسنوات ما كانت تظن أجهزة الدولة أنها في مأمن منه.
وأضاف في عام 2011، سعت إلى احتواء تحركات شعبية محدودة، تزامنت مع اندلاع ثورات الربيع العربي، خشية أن تتحوّل إلى بوادر انتفاضة شعبية. وتراوحت جهود السلطة بين سياسة الترهيب والترغيب، إذ غذت من جهة، مخاوف من إمكانية انزلاق البلاد نحو الفوضى، بالتذكير بالعشرية السوداء التي عاشتها البلاد وراح ضحيتها أكثر من 200 ألف شخص، مقابل إقرار زيادات في الرواتب والمساعدات الاجتماعية، من جهة أخرى.
ومضت أجهزة الدولة في سياستها تلك، عقب إصابة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بجلطة دماغية، عام 2013، أبعدته عن الأضواء، مستغلة المنعرجات التي شهدتها سوريا ومصر ودولتي الجوار تونس وليبيا، فتمكّنت من تمرير العهدة الرابعة، في 2014، دون معارضة حقيقية.
ويشير بلقايد لبي بي سي إلى أن معظم من شارك في المظاهرات الرافضة لإعادة ترشيح بوتفليقة، حينها، على قلّتها، كانوا “من الكهول وكبار السن”.
نهاية “الانتعاشة الاقتصادية”
لكن، مع انهيار أسعار النفط، انطلاقا من نهاية عام 2014، بدا من الواضح أن السلطة الحاكمة بدأت تفقد سيطرتها على الأمور، بعجزها عن شراء السلم الأهلية بطريقة تقيها عدوى الانتفاضات الشعبية، كما فعلت عام 2011. كما أنها لم تتفطن، إلا بشكل متأخر، لما باتت تعتبره لاحقا بـ”التهديد الديموغرافي”، مع اتساع عدد الشباب بين إجمالي السكان، إذ يشكل الذين تقلّ أعمارهم عن 25 سنة نحو 45 % من عدد السكان البالغ عددهم نحو 43 مليون نسمة.
وبينما حاولت الحكومة كبح جماح ميزان المدفوعات والتحكم في نقص السيولة المالية بتأجيل عدد كبير من المشاريع والاستثمارات والحدّ من التوظيف وحظر استيراد مئات السلع، اتجهت نسب البطالة بين الشبان نحو الارتفاع بشكل صاروخي، لتقترب من حاجز 30 %، عام 2016.
التنظم والتعبئة
وبدأت بوادر التحرك محتشمة متواضعة، بعيدا عن الأنظار. انطلقت محاولات على شبكات التواصل الاجتماعي بتعبيرات عدة. لكن، رويدا رويدا، عثر الشبان على فتحة صغيرة يتنفسون فيها. ورغم اغلاق السلطات الجزائرية لمعظم الفضاءات العامة التي يسمح فيها بالتعبير عن الرأي، إلا أنها لم تنتبه إلى مجموعات مشجعي فرق كرة القدم. هناك، بدأ آلاف الشبان بالتنظيم والتعبئة وكانوا يجتمعون لصياغة شعارات ورسم “التيفو”، تلك اللوحات التي يرفعونها قبل انطلاق كل مباراة.
والتقى الشبان مع بقية الأجيال في نقطة شديدة الرمزية في تركيبة الشخصية الجزائرية وتحديد علاقتها مع الآخر وهي عنصر “الحقرة”، تلك الكلمة الجزائرية الخالصة التي تجمع في معناها عبارات “الإهانة” و”الاحتقار” و”الإذلال”.
وحين أعلن التحالف الرئاسي، في 2 فبراير/ تشرين الثاني الماضي، ترشيح بوتفليقة لفترة رئاسية خامسة، كانت كل الأجواء جاهزة لرد الفعل. ويشير أكرم بلقايد، إلى أنّ “الشبان لم يعودوا قادرين على البقاء مكتوفي الأيدي أمام المشهد العبثي في البلاد”، مضيفا أن “دور الشباب كان حاسما في الاحتجاجات الجارية في البلاد، تماما مثلما كان عليه الأمر عام 1988″، حين شهدت الجزائر موجة احتجاجات أنهت عهد الحزب الواحد وفتحت باب التعددية. “إنهم القوة الحية”، حسب بلقايد، الذي يرى أن “الأكبر عمرا يتبعون الشباب الذي بتحركاته، اليوم، يتحدّد الميزان” في الشارع.
مؤسسة الخوف
ولم يعرف معظم المحتجين رئيسا للبلاد سوى بوتفليقة، الذي وصل إلى دفة الحكم عام 1999. وحذر زعيم حزب طلائع الحريات ورئيس الحكومة السابق، علي بن فليس، منذ بداية الاحتجاجات من أن “سياسة التخويف التي انتهجتها السلطة لم تعد تنفع”.
وأوضح الصحفي، أكرم بلقايد، كيف أن الخطاب الرسمي اتجه، فعلا، نحو التحذير من “السيناريو السوري”، بمجرد اندلاع الاحتجاجات.
ولم يعش معظم المحتجين العشرية السوداء التي ترفع السلطة الحاكمة ذكراها كلما استشعرت بدنوّ خطر ما ولا الانتعاشة الاقتصادية التي شهدتها البلاد في العقد الأول من الألفية الثالثة والتي ساهمت بشكل بالغ في تأجيل إثارة ملفّ ما بعد بوتفليقة.
ويقول بلقايد إن البلاد تحتاج لفترة انتقالية حقيقية وليس مجرد تداول شكلي على السلطة. وبعيدا عن التخمين فيما يتعلق بمآلات الوضع في الجزائر، ثمة أمر جلل حصل داخل كواليس نظام سياسي يرأسه رجل مغيّب ويستند إلى تركيبة وهيكلة باليتين، نظام يترنّح تحت أصوات جيل لا طالما تباهى، في سنواته الأخيرة، بتسميته “جيل بوتفليقة”.