على غرار قصة جارسيا ماركيز الروائى الكولومبى الشهير فى روايته (قصة موت معلن) كانت القرية كلها تعرف بقرار الأخوين بابلو وباولو فيكاريو بقتل «سانتياجو نصار» عندما يخرج من منزله. فالأخوان يذهبان إلى سوق اللحامين حيث يعملان، ويبدآن فى سنّ السكاكين أمام رفاق المسلخ، معلنين الهدف بوضوح، وأنهما سيقتلان سانتياجو نصار. وبمثل هذا الوضوح المعلن فى رواية جارسيا ماركيز الشهيرة، تأتى خطوات ميليشيات الحوثى فى اليمن، فهى لا توارى خطتها أمام العالم، وأنها ستكمل حربها المقدسة ضد اليمنيين وقتلهم وزعزعة الإقليم كله. والعالم مثل القرية التى وصفها ماركيز فى روايته، تعلم ماذا سيجرى ولا تحاول وقف الجريمة. نحن أمام مشهد حزين حقا، فى هذا البلد الغارق بحضارته، وأحزانه وحربه الطويلة، يكاد يكون بلدا منسيا، بسبب انشغال العالم بأحداث متلاحقة فى كل مكان. ويبدو الصوت المنادى للنظر فى قضية اليمن، كمن يصرخ فى واد غير ذى زرع. جاء هذا الأسبوع المبعوث الأمريكى الخاص إلى اليمن ليندر كينغ ولم يجد فى المنطقة غير حالة الذهول! ولم تستطع الأمم المتحدة أن تنهى إجراءات تعيين المبعوث الأممى الجديد إلى اليمن، خلفا لمارتن جريفيث، الذى ترك الموقع بعد إجماع كل الأطراف على سوء العمل وخيبة الأمل التى تركها، وتعثر تسمية الدبلوماسى السويدى هانز جرندبيرج للشهر الثانى .ومع كل ذلك تدور معارك طاحنة على الأرض بمناطق مختلفة، أبرزها هجوم الحوثى المستمر على مأرب. وخلال الأشهر الماضية انكسرت هجمات عدة للحوثيين على هذه المحافظة النفطية وخلفت مئات القتلى والجرحى، وتبدو الصورة مؤلمة وأنت ترى أشلاء وأكوام جثث أطفال دفعوا لمحارق الموت. ولكن الحوثى يرى أن ذلك ثمنا قليلا أمام ما يسميه المسيرة القرآنية، التى يجب أن يصل زحفها إلى مكة.
وتبدو المطالبات بإنهاء هجوم الحوثيين على مأرب، والدعوات إلى الحوار السياسى، دعوة لا تجد قبولا عند الحوثى الذى لا يسمع غير الصرخة القادمة من إيران، فعينه وقلبه على مأرب المدينة الأهم فى المعادلة الآن، كونها عاصمة شرق اليمن وإقليم سبأ التاريخى، وملجأ لأكثر من مليونى نازح، كما أنها المحافظة النفطية التى ستشكل للحوثى إذا سيطر عليها ليس فقط قوة معنوية فى تغلبه على أبرز معقل ضد انقلابه وفكرته الدينية فقط، ولكن مصدر قوة مالية ضخمة ستعزز خطته المعلنة. وهى استمرار القتال تحت ما يسميه راية التحرير لبقية محافظات اليمن وترسيخ المسيرة القرآنية نحو مكة المرتقبة، ورسم جغرافيا جديدة تابعة لإيران فى خاصرة الجزيرة العربية، خاصة مع صعود الحكومة الإيرانية الجديدة فى طهران والرئيس إبراهيم رئيسى الأكثر تشددا. والخطة معلنة ويكررها الحوثيون دوما ولهذا لا يستمعون لنصائح الأشقاء، ولا يأبهون بأراء الأصدقاء . وتصبح كل دعوات الإطار الدبلوماسي لا معنى لها. حيث لا تغيير حقيقى فى الأرض يسندها، ولا خسارة مباشرة فى صلب الميليشيات الحوثية وقيادتها يجعلها تشعر بالخطر الوجودى حتى الآن، بل إن مصالحها تتعاظم كل يوم يخدمها فى ذلك حالة التشظى فى الصف الوطنى والذي يستفيد منه الحوثى دون جهد يذكر. والحوثى فى حقيقة الأمر لا يحقق نصرا ولا يزداد قوة ولكن الأطراف الرافضة له لم توحد صفها كما يجب. فتعطيه بريقا جاذبا للمخدوعين، وتظهره أكثر تماسكا رغم فداحة الخسارات التى يُمنى بها، وتنامى رفض الناس له، ولهذا لن يستجيب الحوثى إلى حوارات الدبلوماسية ما لم تعد الحكومة اليمنية الشرعية إلى الأرض بقوة عسكريا وأمنيا وخدماتيا، وينتهى تشظى الصف الوطنى وتخبطه. وإذا لم تكن عدن هى العاصمة الآمنة المزدهرة لكل اليمنيين فإن الخلل فى الجبهات الأخرى سيبقى، ويضطرب حال بقية اليمن. وإذا لم ننجح فى صنع الحوار الداخلى ولم الشمل على مستوى الرافضين للانقلاب وجبهة المطالبين باستعادة مؤسسات الدولة الشرعية وانصارها فلن يكون هناك إمكانية لوقف سيناريو القتل المعلن لليمن الذى يعلنه الحوثى ليل نهار. باختصار معركة مأرب لا تعنى كونها الدفاع عن معقل الشرعية الحصين فقط، ولكنها خاصرة الجزيرة العربية، وخسارتها إذا تمت سيتجاوز أثرها الجغرافيا اليمنية إلى تشكيل خارطة إقليمية جديدة علينا أن نستعد لها، وستكون أكبر تحول نحو ترسيخ التواجد الإيرانى فى المنطقة، خاصة مع صعود تيار أكثر تشددا فى طهران. ومع قناعة الحوثى عبر قراءات دولية مساندة له أن أمريكا فى تراجع دولى وتسير فى سيناريوهات التخلى عن الحضور الفاعل والمكلف فى المنطقة، وهو ما تعمله فعليا في أفغانستان، والعراق وبالتالى لن يكون لها حضور أو تفاعل يذكر باليمن. وبحسب هذه القراءة فإن من يسيطر على الأرض يفرض رؤيته وإن كانت رؤية خارج التاريخ وضد المنطق، ولنا فى وضع طالبان فى أفغانستان، أو تنامى الحشد الشعبى فى العراق عبرة. لهذا يرى قادة الميليشيات الحوثية فى اليمن أنهم الأقدر على صنع خارطة جديدة على المستوى الإقليمى والدولى وليس اليمنى فقط. قد يكون ذلك مثيرا للشفقة والسخرية عندنا جميعا ولكنه طرح معلن، يحاولون فرضه بقوة وجنون يجد له مؤيدين وأنصارا. وما لم يدرك الحوثى كارثة ما يعمله فى اليمن واليمنيين ويتم التصدى له بجدية تشعره بالخطر الوجودى، فإن وهم التفوق سيبقى، وقناعة أنه مؤيد (بالعناية الإلهية) تترسخ كل يوم لتصنع نزيفا يمنيا لا يتوقف موتا وقهرا فى الناس وإيغالا فى نظرة دينية تعيد بلد الحضارة إلى ما قبل التاريخ. ومعه ستشهد اليمن والمنطقة كل يوم سيناريو (قصة موت معلن) سنفيق عليه بعد خراب إقليمى لا يُصدق أنه بدأ بشكل جنونى واضح وأقرب إلى العبث حتى غدا واقعا مدمرا.
الكاتب سفير اليمن في المغرب
نقلا عن جريده الاهرام القاهريه