فى عبارة غسان كنفانى الشهيرة لماذا لم تدقوا جدار الخزان؟ يتجمع كل صوت الغضب الممكن . وتلك الصرخة هى أكثر من مجرد سؤال تعجبي!
هى صرخة ألم مدوية اختتم فيها غسان روايته الشهيرة رجال فى الشمس .
وغسان للجيل الصاعد الذى ربما لم يعد يقرأ بنفس الاهتمام ما كان عليه الجيل السابق هو مناضل فلسطينى بارز وكاتب متفرد، روائى وقاص وصحفي، ويعتبر أحد أشهر الكتاب والصحفيين العرب فى القرن العشرين. فقد كانت أعماله الأدبية من روايات وقصص قصيرة متجذرة فى عمق الثقافة العربية والفلسطينية
اغتالته إسرائيل فى 8 يوليو 1972 فى عملية تفجير شهيرة، ورغم انه لم يتجاوز السادسة والثلاثين من العمر الا انه كان قد خلف ثمانية عشر كتابا وسيرة مدهشة فى النضال وتعزيز الوعى العربي.
واستعدت العبارة فى ذهنى فى هذا الوقت العصيب الذى نمر به كأمة تخرج من التاريخ، وتعانى لعنة الجغرافيا!. لكونها تختزل حالة التيه التى تحاصرنا.
ولا أدل على ذلك من ان الكل يموت فى الخزان المظلم دون أدنى قدرة على الإبصار أو حتى الصراخ؟
والرواية التى صدرت للكاتب الفلسطينى الأشهر فى 1963، ضمت واحدة من أشهر العبارات الأدبية المرتبطة بالوعى المتشبث بقضيتنا المركزية (وإن حاول البعض تهميشها عن قصد): القضية الفلسطينية.
كان الأشخاص فى خزان الماء يحاولون عبور الحدود تهريبا، ولكن الشمس والاختناق أدركهم، ماتوا داخل الخزان قبل أن تعبر بهم شاحنة المياه. وتصور الرواية بشكل مدهش معاناة الشعب، وتختزل فى سطورها معاناة الأمة وليس الشعب الفلسطينى وحده.
أشخاص الرواية الذين ماتوا اختناقا كل واحد منهم بحد ذاته قصة، وهو يصارع اللحظات الأخيرة مختنقا فى خزان حديدى مغلق، يحكى جزءا من مأساة والسائق العاجز رمز القيادة الهشة الذى فتح الخزان متأخرا بعد مروره من نقطة الحدود، وجدهم قد فارقوا الحياة.
وصرخ فيهم صرخته المدوية التى ستصبح شعارا من أجل مواجهة الموت: ( لماذا لم تدقوا جدار الخزان؟) .
لماذا يستسلم الناس للقهر والموت، برغم انه كان بإمكانهم النجاة بمجرد صرخة استغاثة أو احتجاج؟.
التكيف مع القهر والتمسك بأمل كاذب يكون فخا نحو قعر لا قرار له، وهاوية لا رجوع منها.
شهدتُ شخصيا بحكم العمل وفعل القدر، خلال عشر سنوات مضت عن قرب احتجاجات الشارع الصاخبة فى بلدان عدة من اليمن إلى تونس والقاهرة وبيروت، وكنت فى كل رصيف أشعر بأن الناس تدق جدار الخزان!
لكن المشكل ان الخزان كله بقى مرميا فى واد غير ذى زرع.
تاه الشارع العربى منذ أكثر من عقد من الزمن، ولم يجد ربيعه بعد، بل هو شتاء قاس.
نحن فى زمن التيه بكل ما تعنيه الكلمة. يجرى تقسيم المجتمعات نفسها، فى كل بلد بصراع أمراض لم يكن يعرفها، وتعزيز حالة من التشظى غير المعهود. ولم تستطع قيادات السياسة أن تلتقى رغم الأعاصير التى لا تتوقف.
فكل هذا الخراب الذى حل بالأمة ومازال يحل بها وما قدرنا على عقد لقاءات تشاور تبحث عن مخارج؟ .
بينما كنا نشهد انعقاد اجتماعات القمة العربية مثلا رغم محدودية أثرها نراها فى كل حدث، ومع كل مشكلة تحدث وكانت الأحداث تلك حتما أقل مما يجرى الآن لأى بلد.
وينسحب الأمر على كل الهيئات فحتى الأحزاب والمنظمات الإقليمية وقادة الرأى اختفوا من المشهد، اما بفعل الزمن أو الإحباط. ولا صوت يعلو على صمت التيه هذا ! .
كم هو مدمر دوى الصمت القاتل الذى يحيط بنا، الصمت عن مجرد رأى لقادة الرأى والفكر والسياسة، لمناقشة حالة التشظى والتيه العاصفة .
هذا الشلل فى التفكير من أجل الوصول لحلول للأزمات التى تخنق الكل، والقدرة على اتخاذ المبادرة يدمر كل شيء، ويجعل الدوى الوحيد هو لصمت يشبه حالة تجمد بعد صدمة صاعقة .
فى الشارع كما فى السياسة وكما فى الإعلام، ليس هناك غير حالة تيه وخيبة أمل، كأن الكل صار عالقا فى الخزان المظلم دون أدنى قدرة على الإبصار أو حتى الصراخ!.
الكل يموت أملا فى الهروب والنجاة وحيدا، ولا أحد يدق جدران الخزان ياغسان !
نقلا عن صحيفه الاهرام المصريه
الكاتب سفير اليمن في المغرب