اختتم الزعماء العرب والمسلمون مؤخرًا سلسلة من القمم الطارئة في مكة لمناقشة الهجمات الأخيرة على الأراضي السعودية والإماراتية والتي ربطها المسؤولون الأمريكيون بإيران ووكلائها.
وفي حين أن كل من الرياض وأبو ظبي قد قالتا مرارًا وتكرارًا إنهما لا تريدان الحرب مع إيران، فقد أيدتا قرار واشنطن بفرض عقوبات شاملة على الجمهورية الإسلامية تأييدًا شديدًا حتى يغير قادة إيران سلوكهم.
ومن جانبهم، يعمل منتقدو الموقف العدواني لإدارة ترامب تجاه النظام الإيراني في ظل الافتراض الخاطئ بأن الجمهورية الإسلامية قد تخلت عن جذورها الثورية وأنها تنضج وتتحول إلى دولة طبيعية تدافع عن مصالحها المشروعة في منطقة غدارة. وتلك مغالطة خطرة. فمنذ اندلاع الثورة الإسلامية في عام 1979م، أصبحت الطبيعة الثورية الإيرانية والنية التوسعية ثابتة، إضافة إلى أن قدراتها العسكرية أخذت بالتحسن. إن الولايات المتحدة هي القوة الوحيدة القادرة على منع إيران من تحقيق الهيمنة الإقليمية التي تسعى وراءها بشدة، ولدى واشنطن مصلحة جيوسياسية واقتصادية واضحة في القيام بأمر كهذا.
وفي حين أنه لطالما جادلت طهران أنها بحاجة لعمق دفاعي، والذي تعرفه بكل أريحية على أنه تمدد إلى البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر، فإن ذلك ليس إلا مجرد ذريعة.
تمتلك إيران اليوم ترسانة صاروخية تعد أكبر ترسانة في المنطقة وأكثرها قدرة، كما إن وكيلها حزب الله مجهز تجهيزًا جيدًا لردع إسرائيل القوية. كما إن إيران حظيت بقوة ونفوذ كبيرين في بغداد ويعود الفضل في ذلك إلى العلاقات الوثيقة مع العديد من المليشيات التي تشكل قوات الحشد الشعبي في العراق.
وفي مكان أخر، تمكنها شبكتها الإقليمية من الوكلاء المدربين تدريبًا جيدًا والمسلحين تسليحًا جيدًا والتي تشاطرها ذات الأيدولوجية باستعراض قوتها ونفوذها خارج حدودها. فحزب الله يزداد قوة في لبنان، والمليشيات الشيعية التابعة لها تساند الأسد في سوريا، وحليفها الوثيق – الحوثيون – يسيطرون على اليمن بعدما أطاحوا بحكومتها المعترف بها دوليًا في عام 2015م. لا تشكل دول أخرى في المنطقة ذات التهديد الوجودي. فالجيش الإسرائيلي بعيد جدًا، والقوات المسلحة الإماراتية صغيرة جدًا، والسعودية البالغ تعداد مواطنيها 20 مليون نسمة مقابل 83 مليون نسمة في إيران، لا يمكنها أن تأمل في إزاحة النظام الإيراني.
وفي حقيقة الأمر، إن قول إيران بأنها ضحية محاطة بخصوم عدائيين متصلبين لم يثبت إطلاقًا. وقد نسي المسؤولون الإيرانيون على سبيل المثال أنهم اختاروا اخذ الدبلوماسيين الأمريكيين كرهائن بدلًا من الاستجابة الإيجابية لمبادرات الرئيس كارتر الدبلوماسية بعد ثورتهم. لم يعد يتذكرون أن آية الله الخميني هو الذي صعد التوترات التي أشعلت فتيل الحرب الإيرانية العراقية بعدما دعا الشعب العراقي “للحذر من قادتهم وأن أن يثوروا حتى ينتصروا” ودعم المعارضين الشيعة في الدول العربية الخليجية. وبعد خمس سنوات من تحرك ولي العهد السعودي آنذاك الأمير عبدالله لتطبيع العلاقات مع إيران، فجر حزب الله الذي تدعمه طهران مجمع سكني في مدينة الخبر السعودية، ما أسفر عن مقتل 19 جنديًا أمريكيًا. وفي عام 2015، كشف المسؤولون الكويتيون عن خلية إرهابية تدعمها إيران في العبدلي، إضافة إلى مخبأ أسلحة تم وصفه لاحقًا على أنه “أكبر مخبأ تم اكتشافه [في تاريخ البلاد]”، بعد سنوات من السعي لبناء علاقات دبلوماسية جيدة مع إيران.
بالنسبة “لقوة طبيعية”، فإن أفعال العدوان هذه قد تبدو غير عقلانية. بيد أنها بالنسبة لدولة طامحة للهيمنة مثل إيران، فهي عقلانية تمامًا. ويجادل المؤرخون بأن “الثورة الفرنسية عززت … الوطنية الفرنسية عبر حقنها بدافع أيديولوجي مسيحي”، الأمر الذي دفعها لتصدير ثورتها من اجل الإطاحة بالنظام الملكي الأوروبي. وبالإمكان قول ذات الأمر عن إيران بعد عام 1979م.
لقد أوضح الخميني منذ أول يوم أنه كان واجب على الإيرانيين “تصدير ثورتنا”. وما يزال تلامذته المقربين يديرون البلاد بالشراكة مع الحرس الثوري الإيراني الذي تم تلقين كادره المسلح مبادئ ثورة عام 1979م الراديكالية والملتزمون تمامًا بالحفاظ على هذه المبادئ داخليًا ونشرها خارجيًا. ويتحكم بالسياسة الإيرانية “أبناء الثورة”، ولكن ليس أولئك البراغماتيين الذي لا حول ولا قوة لهم، الذين يتسامح معهم النظام فقط من أجل تقديم واجهة معتدلة للجمهور الغربي. ففي الشهر الماضي في الواقع، أشار الرئيس روحاني لمجموعة من البرلمانيين والنشطاء السياسيين إلى أن قدرة حكومته على إدارة السياسية الخارجية لإيران محدودة.
ومن أجل استعراض قوته، أعاد النظام الإيراني توجيه أمواله الشحيحة من البنية التحتية والرعاية الصحية والتعليم إلى “اقتصاد مقاوم” ينفق المليارات من الدولارات في الصراعات الخارجية، فضلاً عن برامج صواريخ باليستية ونووية باهظة التكلفة، مع توفير الحد الأدنى شعبها. والهدف من ذلك هو تخريب النظام الإقليمي القائم، والإطاحة به إن أمكن. في الأسبوع الماضي فقط، طالبت مقالة افتتاحية في صحيفة كيهان الناطق بلسان النظام، مرة أخرى بالقضاء على “النمو السرطاني” المتمثلة في الملكية السعودية.
إن الولايات المتحدة هي “العدو الأول” لطهران وذلك لأن القادة الإيرانيين ينظرون للولايات المتحدة باعتبارها القوة الوحيدة القادرة على إحباط طموحاتهم. كما إن سحب القوات الأمريكية من المنطقة سيسمح لإيران بتحقيق هدفها الأساسي المتمثل في سيطرتها على الخليج العربي وتأهيته لإجبار وانتزاع أكبر قدر من التنازلات السياسية والاقتصادية من منتجي النفط العرب المجاورين.
وما هو أهم من ذلك هو أن الانسحاب العسكري الأمريكي من المنطقة قد يمكّن إيران من اختطاف أسواق الطاقة العالمية والاقتصاد العالمي بأسره كذلك بحكم ارتباطه بالنفط. وبشكل صحيح، قلِق المسؤولين الحكوميين الأمريكيين بشأن سيطرة روسيا على ثلث واردات الغاز الأوروبية والنفوذ الذي يقدمه ذلك لموسكو على العواصم الأوروبية. لقد دخلت الولايات المتحدة في حرب لمنع صدام من الاستيلاء على 10% من احتياطات النفط العالمية التي كانت تتحكم بها الكويت. وستمنح الهيمنة الإيرانية وسيطرتها العسكرية في أنحاء الخليج العربي طهران نفوذًا، وربما السيطرة حتى، على أكثر من نصف ثورة النفط العالمية و40% من احتياطات الغاز الطبيعي في العالم. وبما أن النفط والغاز يمثلان سلعتين عالميتين، فإن ظهور الولايات المتحدة كدولة قوية في مجال الطاقة لن يحميها (وكذلك بالتأكيد بالنسبة لشركائها التجاريين الرئيسيين) من المخاطر الكارثية المحتملة المرتبطة بهذه النتيجة المشؤومة.
إن هدف واشنطن الفوري يجب أن يكون تغيير سلوك إيران. لقد كان العيب المميت في الاتفاقية النووية الشاملة هو أنها تجاهلت برنامج الصواريخ الباليستية للجمهورية الإسلامية وشبكات الوكلاء والإرهاب الحيوية لقدرة إيران على استعراض قوتها ونفوذها بنفس قدر برنامجها النووي. إن نظام العقوبات الصارم الذي تتبعه إدارة ترامب والذي أصاب فعلًا “اقتصاد المقاومة” الإيراني بالإضافة إلى الوجود العسكري القوي لردع الهجمات على البنية التحتية للطاقة في الخليج والقواعد العسكرية الأمريكية هو أفضل طريقة للمضي قدمًا حتى يُضغط على إيران للعودة لطاولة المفاوضات والتخلي بشكل كامل عن طموحات الهيمنة الخاصة بها وأن تتوقف عن تهديداتها المقصودة للاستقرار الإقليمي.
*مؤسس مركز الجزيرة العربية مترجم عن موقع سي إن إن الأمريكية