محمد جميح
الناس يتعاملون في الغالب مع «إعادة الإنتاج» أكثر من تعاملهم مع عملية «الإنتاج» نفسها. من هنا يذهب الناس إلى السينما، يطوفون بالمسارح، لأن تلك «المعامل الفنية»، تعيد منتجة الواقع، تأخذ الناس بعيداً عن «المنتج الحقيقي» الذي يريدون التخلص منه بإعادة منتجته بما يتناسب مع جنوح الإحلام، والخيالات المجنحة.
يطرب الناس للقصيدة لأنها – كذلك – تعيد صياغة العالم بما يتجاوب مع العالم الجواني للإنسان الذي يتوق إلى الأمثل والأفضل. شغف الناس بـ»عملية المنتجة» يفوق شعورهم تجاه «عملية الإنتاج» نفسها، ولذا نقف مدهوشين أمام أعمال بيكاسو ودافينشي ورامبو والخيام وجلال الدين الرومي والمتنبي، وغيرهم.
هذه هي مهمة الفن الجميل، الفن الذي يأخذك من الواقع إلى المتخيل، ومن الأرض إلى السماء، ومن الجسد إلى الروح، ويبتكر سماء ثامنة في الأفق، ونوتة ثامنة في السلم الموسيقي، ويوماً ثامناً في الأسبوع، ويجعلك توقن أنك تعيش في هذا العالم عيشة المنفصم المندغم، او المنفصل المتصل في آن.
لكن دعونا من هذه العملية اللذيذة التي نسافر فيها مع البعد الثالث، مع المكان المتسع داخلنا، مع الزمن الداخلي الذي يمتد بنا من تخوم الأزلية إلى مشارف الأبدية، دعونا من ذلك كله، لنذهب لمقاربة نوع رديء من عمليات «المنتجة» التي تقترن بالسياسة التي يفسد شيطانها كل شيء تأتي عليه، من دين وفن وأخلاق.
خذوا على سبيل المثال الرموز التاريخية للمسلمين، الرموز القومية للعرب، منعطفات التاريخ المشرقة، شخوص الحضارة الإسلامية المتكاثرة، كل ذلك يمر اليوم بعمليات مقصودة من «المنتجة» لإعادة «إنتاجها» بصورة تؤسس لمرحلة يراد فيها أن تفرغ منطقة الشرق الأوسط من ركائزها الحضارية المهمة، تمهيداً لإلحاقها بسياقات جغرافية وتاريخية عالمية، بدون أن يكون لهذه المنطقة من دور في صياغة تلك السياقات، أكثر من دور «الملحَق» الذي ينفعل ولا يفعل، أو يتبع ولا يقود، ويتأثر ولا يؤثر.
شخصيات كبيرة في تاريخ المسلمين الديني والسياسي والعسكري، مثل عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، والحسين بن علي – على سبيل المثال – تتعرض لعمليات شرسة من «إعادة الإنتاج» تمهيداً لسقوطها أو إسقاطها من منطقة الشعور المسلم، والذاكرة المسلمة، ومن ثم ملء الفراغ الذي تربعت عليه في هذا الشعور، وتلك الذاكرة لقرون طويلة، بشخوص أخرى، من سياقات أخرى لا علاقة لها بالسياقات التاريخية والجغرافية التي أسهمت في «إنتاج» تلك «الشخصيات التاريخية» المهمة في تاريخ المنطقة والعالم.
تسعى دوائر بعينها – اليوم – إلى إعادة تصوير الشخصية الكبيرة عمر بن الخطاب – على سبيل المثال – في ضوء جملة من الخلافات المعاصرة بين السنة والشيعة من المسلمين، وتريد من خلال ذلك نسيان دوره الريادي في صناعة تاريخ المنطقة، وإعادة صياغة تاريخ العالم. والشأن ذاته فيما يخص شخصية علي بن أبي طالب، الذي كان حقه أن يعد أحد فلاسفة المسلمين الكبار، لولا تنازعه السياسي بين فرق المسلمين لأغراض سياسية لا علاقة لها بتلك الشخصية التاريخية الكبيرة.
أما إذا أردنا أن نعرف كيف يتدخل الفن لإعادة منتجة الشخصيات التاريخية، لتبدو في «نسخة مزورة»، وبصورة هزلية، فما علينا إلا أن نتمعن في صورة «الحسين» التاريخية، ثم نطالع «البورتريهات» الطائفية التي يعاد إنتاجها – اليوم – في معامل ضخمة، لعرضها في «مشاهد كرنفالية» من أجل ترسيخها في أذهان «العامة»، بغرض انتزاع «الحسين» من سياقه العربي الإسلامي إلى سياقات أخرى لا علاقة له بها، في نوع من التسييس الماكر ليس للدين وحده، ولكن للفن كذلك.
تستهدف «عمليات المنتجة»، أو «إعادة الإنتاج» الرهيبة التي تحاول تلك الدوائر إجراءها على رجالات التاريخ الإسلامي، تحويل هؤلاء من «شخصيات تاريخية» إلى «شخوص روائية»، من أجل تكريس «الصورة الروائية» الفانتازية على حساب «الحقيقة التاريخية»، ولأن «الصورة الروائية» تعلق بذهن المتلقي أكثر من «الحقيقة التاريخية»، فإن «دوائر الإنتاج» تسعى إلى إيصال رسائلها السياسية عن طريق «المشاهد الدرامية»، و»البورتريهات الممنتجة»، التي تشهدها «حفلات اللطم» الحسيني – على سبيل المثال – لتكريس ثقافة كراهية الآخر، وتغذية الثأر الذي تحول إلى ثأر من «الحسين» ذاته، ومن مبادئه التي أراد إرساءها.
كل تلك العمليات تجري داخل الصف الإسلامي ذاته، غير مدركة أنها بإسقاط «الشخصيات التاريخية» في شرك «الشخوص الروائية»، لخدمة الأهداف السياسية، فإن تلك الشخصيات تتحول إلى «مخيال شعبوي»، لا علاقة له بالتاريخ، ولا بشخصياته الحقيقية، علاوة على أن ذلك يسيء إلى تلك الشخصيات التي تتحول مع الزمن إلى معول هدم للبناء ذاته الذي سعت هي إلى تشييده، بفعل عمليات المنتجة اليومية التي لا تدع كرنفالاً دينياً إلا وجيرته لصالح أهداف سياسية وقومية، ضد تاريخ تلك الشخصيات.
وبعيداً عما يدور داخل السياق الإسلامي، يجدر التنويه إلى أن عمليات المنتجة تلك تمارس كذلك على نطاق واسع في الغرب، ولكن ضد الشخصية الكبرى في تاريخ الإسلام، وهي شخصية النبي نفسه. فحين لا يجرؤ أي من المسلمين اليوم على إجراء أي من عمليات «المنتجة» المزيفة التي تجري – اليوم – على «الحسين» مثلاُ، حين لا يجرؤ مسلم على إعادة منتجة النبي بهذه الصورة الهزلية، فإن «أنساق إنتاج» كبرى في الغرب تعمل جاهدة على القيام بهذا الدور ضد نبي الإسلام.
من يطالع الكم الهائل من «الصور الكاريكاتيرية» لنبي الإسلام التي تطفح بها وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها، والتي تقوم بالترويج لها مواقع وصحف و»وسائل إنتاج» تتبع اليمين المتطرف في الغرب، يصاب بصدمة إزاء الحملة المحمومة لـ»تسييس الفن»، لخدمة الأغراض التدميرية التي يسعى إليها هذا اليمين بترويجه لصورة هزلية سخيفة لواحد من أهم شخصيات التاريخ الإنساني القديم والحديث.
في المآلات لا تستطيع هذه القوى الإقليمية والدولية أن تلوي عنق التاريخ، أو تغير مجرى نهره الكبير في منطقة الشرق الأوسط. كل ما في الأمر أن رتوشاً بسيطة سوف يصاب بها «إطار اللوحة»، أما اللوحة الحقيقية للتاريخ ولشخصياته، ولسياقاته العامة فإنها لن تتأثر، وقد مر تاريخ المنطقة بمنعطفات كثيرة حاولت خلالها قوى إقليمية وعالمية تغيير مجرى التاريخ ومعالم الجغرافيا، ولكن بدون جدوى.
يمكن أن يكون ما يحصل خربشة على «هامش التاريخ»، أو لنقل «ذبابة على جدارية التاريخ»، يمكن أن يكون ما يحصل محاولات لتغيير رسم «حدود الخرائط»، لكنها لن تمس «معالم الجغرافيا»، وقواعدها الثابتة. كُتب فقط على أهل المنطقة أن يخوضوا – اليوم – هذه الحرب الأهلية من أجل إعادة صياغة تاريخ مزور لن يكون، ومن أجل إيجاد مجرى آخر للنهر ليصب في مصبات أخرى، لن يصب فيها بفعل حركته التفاعلية المنطلقة جهة مصباته الطبيعية، ضمن مجراه الطبيعي.
لا قلق… ما يجري خربشة على «جدارية التاريخ» لن تشوه معالم اللوحة، مجرد مويجات صغيرة على مجرى النهر لن تصد مجراه، مهما فعلت.
يقول القرآن «لن يضروكم إلا أذى»…
مجرد خربشات يومية على «الهامش»، لن تصل إلى «المتن» مهما اقتربت من تخومه.