ليس هناك من مخرج لاستقرار هذه المنطقة والعالم، وازدهار الوطن العربى كما يجب، إلا بعودة مشروع جامع.
ليس فى الأمر خيال علمى ولكنه حديث الضرورة، الذى صرنا للأسف نتهرب منه.
هذا الأسبوع وجدت نفسى أشهد حدثين مهمين فى الرباط، الأول مؤتمر أممى حاشد حول اقتصاد الرعاية والحماية الاجتماعية، وفيه رأيت إعادة الاعتبار لمكانة المرأة، وإعادة الاعتبار لخطاب التضامن العربى والانفتاح الإنسانى وتمكين النساء، وخلاصة القول إن تعزيز الحماية الاجتماعية وإيجاد اقتصاد متعافٍ يجعلنا فى مسار التقدم والأهم فى سلام مجتمعى.
كان الحضور المميز لخبيرات من مختلف العالم عربيا ودوليا مقدرا،
وأخرج باقتناع هو أنه فيما يبدو بالغالب واقعية الطرح أن الذكور يصنعون الحروب والنساء يخلقن السلام، (ليس كل النساء بطبيعة الحال ولا كل الذكور)!، لكن اللافت فى الأمر الطرح الذى يعيد الأمل بالتقارب ووضع الحلول.
ورأيت فى الحدث الثانى حفلا فنيا، الناس تهتف مع كل ذكر اسم بلد قدم منه بعض المشاركين، سواء من لبنان والمغرب ومصر أو اليمن وفلسطين أو اسم أى بلد عربى، حيث يضج الناس بالفرح وإظهار مشاعر المحبة. وتندهش لصدق المشاعر، ووضوح الرؤية الشعبية لأهمية التقارب وتجاوز صراعات عجيبة.
وعندما تترك هذا الواقع الحى، إلى فضاء السياسة والإعلام والعالم الافتراضى، تجد صراعات لا تنتهى، وحالة محزنة من خطاب الكراهية والتشظى تحيط بهذه الأمة العربية التى وضعها القدر فى قلب العالم وجعلها أمينة على أهم طرقه الدولية ومخزون ثروات البشرية، وعدم القدرة على خلق حد أدنى من التقارب وتكامل الأدوار.
أتذكر هنا النظرية الشهيرة للفيلسوف الألمانى شوبنهاور المسماة «مُعضلة القنفذ»، فقد تأمّل الرجل الذى لم يسمع بقضيتنا على كل حال، ولحسن حظ العلم والبشرية أنه تأمل بالقنافذ لا بحالة جيلنا! ودرس الرجل موقف حيوان القنفذ، واعتبرها واحدة من معضلات الإنسان الاجتماعية النفسية، وسماها (مُعضلة القنفذ). وما نقل عن تلك المعضلة أعيده هنا، فـ«شوبنهاور» تكلّم أن «الإنسان الكائن الوحيد الذى يشعر باحتياج شديد لأن يقترب من الناس ويتفاعل معهم، وأنّ العزلة تبقى قاسية جدا ومؤلمة بالنسبة للإنسان الطبيعى (مثل البرد بالنسبة للقنفذ)، فيقرّر أن يفعل مثل القنفذ ويبحث عن أبناء جنسه ويلتصق بهم من أجل الدفء النفسي.
المشكلة أن التصاقه وقربه هذا لن يكون مصدر سعادة وراحة له طول الوقت، وإنما على العكس، مصدر ألم وتعب (لنفسه ولأقرانه)، وهنا تتولّد مشاعر سلبية كثيرة مثل الضغط النفسى والغضب والفراق وغيرها.
ومثلما يكون القنفذ مجبرا على إيذاء أقرانه، ذات القضية مع الإنسان (لن يتعمّد جرح أحد) وإنما هى الطبيعة البشرية ولكل منّا أشواكه!!.
نظريا، فإن القنفذ وجد حلا لهذه القضية، واستحدث طريقة بسيطة ناجحة، وهى عملية سماها شوبنهاور (المسافة الآمنة) «فاستطاع القنفذ أن يختار مسافة معينة من السلامة، مسافة تضمن له الدفء الكافى، وفى الوقت نفسه أقل درجة ممكنة من الألم».
فى إسقاط هذا القول الشهير وهو متداول بشدة عن الفيلسوف الألمانى، على واقع أمتنا سياسيا، فنحن بحاجة لابتكار، المسافة الآمنة، بعد غياب الرؤية الجامعة، وأمام حالة الاقتتال الدامية، والصراعات العجيبة، لتكن هناك حالة من المسافة الآمنة، يمارس فيها أبناء الأمة طقوسهم المؤمنون بها، وتتوقف حالة غرس الأشواك ببعضنا.
ويبدأ المجتمع بالتعافى نحو صنع استقرار يولد دفئا فى صقيع التآمر الدولى الواضح على هذه الأمة.
والأمر ليس فيه تنازلات من قبل أحد، بل يعود ملف التعاون الاقتصادى لمقدمة الحوارات وتترك الطرقات بين البلدان كلها مفتوحة، وتعود المطارات آمنة أمام الجميع، وتنساب حركة التجارة والثقافة.
حينها فقط تشعر الأمة كلها بالأمان من بعضها، وتطبق حكمة القنفذ، حتى يجد الناس طريقهم بعدم الإيذاء من تقارب دام أو عزلة قاسية، أو حرب مدمرة.
الكاتب سفير اليمن في المملكه المغربية
نقلا عن جريده الاهرام المصريه