فى الرواية السينمائية الخاصة بغرق سفينة تايتانك، كان الذين رأوا السفينة تصطدم بجبل الجليد وأدركوا سقوطها قلة قليلة من الركاب، أولئك القلة أدركوا لحظتها أن السفينة ستغرق، ولكن أقل منهم من كان يعلم أن قوارب النجاة غير كافية للجميع، وأن الهلاك سيحل بالأغلبية المسكينة من ركاب الدرجة الثانية الذين لا علم لهم ولا حظ!.
ركاب الدرجات الدنيا أولئك من العامة الذين حجبت عنهم المعلومات وصدت فى وجوههم الأبواب.
وفى المشهد الدرامى للتدافع من أجل النجاة طُلب من الحراس الغلاظ أن يحبسوا العامة فى قعر السفينة، ونفذ الحراس الأمر وصدوا الناس عن الوصول إلى سطح السفينة ليموتوا فى قعرها ولا يدركون أنهم يموتون معهم، فالحارس يصير هنا كتلة متحجرة من القسوة لا عقلاً ينظم سير الحياة!، وبالتالى لا يدرك الخطر المشترك.
ولكن ما يلفت نظرى ليس قبطان السفينة ومسؤليته، بقدر التزام فرقة الموسيقى التى بقيت تعزف مقطوعات الأعراس وهم يدركون أنهم سيغرقون، ذهبوا للعزف وهم بكامل اناقتهم وهدوئهم، وكان التزامهم قمة فى النُبل، حيث عليك أن تغرق وانت تؤدى آخر وأجمل ما لديك لأجل نفسك أولاً، ولأجل الآخرين ثانياً، حتى وهذا الآخر لا يدرك حجم تضحيتك، فأنت لا يعنيك رضاه وترى أنه بقدر ما هو منشغلٌ عنك بلحظة الرعب بقدر ما أنت منشغل عنه بالاستمتاع بتذوق آخر رشفةٍ من كأس الحياة!.
وفى واقع الحال الذى نعيشه، لا أعرف من هم القلة التى ترى الآن جبل الجليد يصطدم بواقعنا المعيش كاصطدام تايتانيك، ولا نعرف أيضا من هم (الأقل من القليل) الذين لديهم علم بأن عدد قوارب النجاة محدودة.
لكنَّا نعرف ونرى مجاميع ركاب الدرجة الثانية الذين يغمرهم الماء فى تايتانك الواقع مع الحراس غلاظ القلب والنفوس، وإن كنا أقرب لأعضاء فرقة الموسيقى التى تذهب إلى الموت بكامل ألقها، نعزف آخر ألحان الشجن للمحيط الغاضب نهمس له بكل عذوبة عما تبقى من جذوة الأمل فى النفوس المحروقة، حول أوطان تتبخر بين أيدينا، ونَشُمّ جميعا حرقة قلوبنا التى يشعلها قهرُ واقعٍ لا يمكن وصفه وليس له مثيل!. وكأنها بقايا دخان عذبٍ لبخور أصيل.
نعم لا شىء يتم عمله غير أننا تقمصنا جميعا شخصية عازفى الكمان الحزين بفرقة موسيقى تعزف لطوفان حاصل!.
يرحل المرء الممتلئ بالعشق والقهر معا، يرحل دون أن يجد التفاتة وداعٍ تليق به ،بل وعليه أن يتجنب أعين ترصد روحه المنهكة وهى تذوى حرقة على بلد يتبخر.
فالبعض «لا يقترب منك لمواساتك، بل ليطمئن أنك تتألم».
وعندما يدرك حجم ألمك يتقمص قناع سعادته ويذهب مبتسما تاركا لك فرصة الغرق وانت تعزف له آخر ألحان الأمل.
ولا أحد يقول للآخرين عن حلول الكارثة، بل يكتم الحقيقة ومعها أنفاس من يدرك هول ما نحن قادمون عليه، وتلك ليست أنانية بل سلوك مضطرب يجعل البشر فى مرحلة ما دون الآدمية.
وإذا كان شعور وتحرك الحيوانات وتغير سلوكها قبل حدوث الكوارث، يظهر علنا ويبقى مؤشر إنذار ذا إحساسٍ عالٍ يساعد فى إقناع البشر والسلطات بإخلاء المدن وتجمعات السكان قبل ساعات من حدوث أى كارثة هائلة.
فذاك إحساسٌ عال لا تجده فى البشر ولا تجد من لديه القدرة على إظهار الغضب عن قرب حدوث الكارثة، ذاك أمر افتقدناه فى المجتمع، ربما لكون البشر لدينا صار دورهم تعميق حفرة الكارثة، لا التحذير منها والإبلاغ عن قرب وقوعها.
فلا يتحرك أحد ليقرع أجراس الإنذار، وليس فى مآذن الوادى من يرفع صوت الأذان يا بلال.
الكاتب سفير اليمن في المغرب
نقلا عن جريده الاهرام المصريه