اشتعلت الحرب فى المنطقة، وتأخرت المواجهات العسكرية الواسعة بين الجيوش، وحُصرت فقط فى نطاق غزة. وحتى تلك التى خرجت صوب لبنان سميت مناوشات!. لا أحد يجرؤ على إلقاء شرارة فى السهل ليحترق! حتى الآن على الأقل.
لكن الكل يعرف أن دائرة الحرب تعنيه، وحيث قال البيت الأبيض إنها حرب أمريكا المقدسة ردت أوروبا «آمين»، غير مترددة فى اللحاق بالركب، بل قال ماكرون لماذا لا يُعلن تحالف دولى ضد حماس؟ وهو ليس برأى، ذاك ما يسمى جس النبض!.
الآن الكل يتحسس رأسه فى المعركة، فعاصفة غزة ستتجاوز القطاع إذا ما أصر الكيان الإسرائيلى على إكمال خطته فى التهجير لأهل غزة، فسياسة أن فلسطين يجب أن تكون أرضا خالية من السكان من أجل السلام، تعنى حرق السهل كله وليس غزة المحاصرة منذ عقود!. ولكن نظرية قيام الكيان الإسرائيلى نفسه قائمة على حلمه فى إلغاء فلسطين لا غزة فقط. وهذا جوهر صراع الوجود الممتد منذ قرابة قرن كامل وليس وليد السابع من أكتوبر فقط، كما يريد العالم أن يتوقف عنده، لذا دائرة الصراع تمتد إلى خارج الجغرافيا كلها. هى الحرب بكل معنى الكلمة، على كل المنطقة وجوهر ذلك القضية الفلسطينية برمتها. قطع بحرية لم يسبق لها مثيل فى المنطقة حتى أيام الحرب العالمية وأوج الحرب الباردة، وكل ذلك على غزة التى ليس معها قوات بحرية ؟!. ذاك غير منطقى !. وطيران يجوب سماءً ما عاد فيها قمر يسهر على صبر العاشقين. واستخبارات الدنيا تفرغت لهذه الزاوية من الأرض، وتراشق إعلامى إلى حد القتل المعنوى للأشخاص والدول.
وإذا كانت أمريكا أعادت تموضعها فى المنطقة، فإن حضور الآخرين ليس بغائب كلية، وإيران لم تتأخر كثيراً وأعلنت مناورتها أيضا، وهى تريد أن تلعب دور اللاعب الثالث ذاك الذى يكسب فقط بانتظاره نتائج صراع المنافسين له، فلا يكون عليه غير أن ينتظر، وهى تجيد لعبة الصبر، منذ مهنة صناعة السجاد إلى صناعة الأذرع التابعة له. وروسيا والصين ليستا ببعيدتين عسكريا، أما سياسيا فقد أكدتا حضورا لافتا على واشنطن فى مجلس الأمن، بل وعادت روسيا لكل أرشيف الاتحاد السوفيتى ومجده الدبلوماسى!. أوروبا الرسمية لم تتردد فى لعب دور التابع لفتى الكاوبوى، وظهرت ثقافة القطيع لدى النخبة السياسية الأوروبية بشكل لا يخفف من دوى سقوطها غير رفض الشارع الغاضب لهذا السقوط!.
ولكن القرار لم يصل إلى يد رؤساء الأركان فى الجيوش بعد، مازال السيرك السياسى حاضرا إلى حين!. ونحن فقط ننتظر.. ذاك قدر على ما يبدو لا اختيارا.
الأمور لا تحتاج إلى قراءة المندل، ولكن تحتاج إرادات للتغيير، والفعل الذى تم فى السابع من أكتوبر هو حق مشروع فى عرف المقاومة، ولا يحتاج إلى جهد فى التبرير، فالقول بقبول الاحتلال إذلال لا يقبله منطق، ولا يقره شرع أو قانون. أما النقد لتصحيح المسار فواجب، حيث لا يكون هناك فعل عسكرى دون هدف سياسى يوازى حجم هذا الفعل، حتى لا يغدو الإقدام الباسل أقرب للانتحار. والمقاومة صارت بحاجة لإصلاح الداخل وتوحيد الصف أكثر من أى وقت. لابد من إعادة الاعتبار لوحدة الصف الفلسطينى، ووقف أى تشظٍ بالموقف العربى، فذاك هو الطريق، وإعادة الاعتبار لفكرة المقاومة الوطنية لتحقيق الهدف الأسمى. فإذا أردنا تلمس الحل الذى يقود لمستقبل آمن لابد أن يمر عبر توحيد القرار الفلسطينى ودعمه، وذاك يتطلب حاضنة عربية متماسكة. دون ذلك سيبقى الأمر قفزا فى الفراغ. فما يتم تضحيات لم يسبق لها مثيل، وبالتالى لا يكون الهدف مجرد إطلاق سراح أسرى لفعل كبير كهذا، نعم إطلاق سراح الأسرى هدف نبيل، لكنه جزء من سقف مطالب لابد أن توضع بوضوح مقابل هذه التضحيات، فالهدف الذى يدفع ثمنه عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى، يجب أن يكون بسقف الوطن وإنهاء الاحتلال. وصنع نصر فى تعزيز القرار الاستراتيجى الفلسطينى، وبدلا ما يخطو الكيان الإسرائيلى خطوات نحو مجده المزعوم، نصنع جسر خلاص لشعبنا من الاحتلال ونعدو نحو تحقيق بناء الدولة الفلسطينية. فهذه الكارثة بقدر ما فيها من القهر ،بقدر ما يمكن إدراك بصيص أمل فى تعزيز صمود الشعب الفلسطينى، وتوحيد ساحات نضاله وإنهاء التشظى العربى الذى دوما ما ينعكس على واقع الساحة الفلسطينية.
وردا على أى إحباط فإن المقاومة لا تموت فى الشعوب الحية، وليس هناك من هو أشد صلابة من شعب فلسطين. هذه الساحة الفلسطينية التى تمدنا جميعا بروح المقاومة، وتعيد تذكيرنا بأهمية إعادة الاعتبار لمشروع نهوض عربى فى وجه مشروعات عدة تستهدف هذه الجغرافيا وتاريخها، فهذا قدر النضال الفلسطينى، لشعب ينبت من بين مفاصل صخر، وذاك منطق التاريخ المخضب بالوجع.. لا مفر.
الكاتب سفير اليمن في المغرب
نقلا عن جريده الاهرام المصريه