وصلتُ إلى الخرطوم ذات صيف فى أغسطس 2015 وأنا وزير فى الحكومة اليمنية السابقة، مثقلا بهم الحرب وملفات لا تنتهى من الألم اليمني، والجرح فى أوله، لم أكن أحمل غير عبارات شكر ورسالة شفهية.
وأنا أعرف السودان منذ أمد بعيد كما أظن، من خلال رفاق عمر، وكوكبة من المعلمين الذين ازدانت بهم مدن اليمن وقراها خلال ستة عقود على الأقل.
وفى كل منعطف سياسى أو فكرى كان لدى رفقة من السودان، وفى القاهرة اختلطنا معا وكان كل طالب يمنى أو سودانى يجد من يؤويه من الأشقاء، حتى يفرجها الله عليه، وصرت أعرف بتفاصيل المجتمع كما أدعي، وإنى (سوماني) أصيل، وذاك مصطلح شهير لمن يجمع فى قلبه حب اليمن والسودان فيصبح من السومان ! . نحته الدكتور نزار غانم، وهو نجل الشاعر الدكتور محمد عبده غانم الذى عرفته جامعة الخرطوم أستاذا كما عرفت الجامعة آلاف اليمنيين طلابا.
طلبت من وزير العدل يومها، وكان قاضيا فاضلا مازال قادما من الخليج على ما أتذكر، طلبت أن ألتقى القيادة السودانية بأسرع ما يمكن وقد كان.
وفى ثانى يوم تم اللقاء بنائب الرئيس البشير كان ذاك هو حسبو محمد عبدالرحمن، والحديث مع كل سودانى فيه حميمية صادقة غير مفتعلة، بدأت بترتيب النقاط ولم يجعلنى الرجل أقوم من جلسة اللقاء إلا وهو يسمعنى توجيهاته لوزير فى مجلس الوزراء بسرعة تنفيذ الطلبات، ووضعها فى اجتماع المجلس وهو ما تم، من إلغاء التأشيرة على اليمنيين القادمين من اليمن، ومعاملة اليمنى كسوداني، وتسهيل قضايا الدارسين، والتنسيق لكيفية استقبال الجرحى حسب الممكن والمتاح، قال الرجل «سنتقاسم معكم حبة الدواء فأنتم شعب شقيق».
وفى المساء وجدت قاعة المسرح التى رتبت للقاء العام هناك مكتظة بالسودانيين واليمنيين حتى آخرها، تهتف بحب اليمن ووحدته واستقراره.
كنت أغادر مطار الخرطوم وشمس أغسطس الساطعة عندى أحن من قمر ليالى الربيع، فخبر التسهيلات ومجلس الوزراء السودانى يقول ذاك شعبنا ونحن معه ! .
وخلال عملى فى كل المواقع الصحفية والحقوقية كان لابد أن أجد سودانيا رائعا يتقاسم معنا الفرح والألم، يعيش بصدق واندماج اجتماعي، لا يماثله إلا اندماج اليمنيين فى المجتمع السوداني.
ففى السودان مقولة معروفة عن عناصر مكونات كل حى أو قرية حيث يكون (دكان اليمني) جزءا من هذه المقومات التى تسمح بتسمية التجمع بأنه قرية مكتملة الأركان.
وربما لا يعرف البعض أن أجمل أغنيات السودان هى من شعر حسين محمد سعيد بازرعة، اليمنى الأصل السودانى المولد والهوى، وتلك جزء من حكايات مشتركة عظيمة تحتاج وقفة أخرى.
ولكن لن أنسى أيام عمل صعبة فى شهور الحرب المؤلمة باليمن فى 2016 و2017، كنت فى جنيف أطلب من مجلس السفراء العرب أن يكون مشروع القرار المقدم والخاص باليمن باسم المجموعة العربية وحدها، ونقطع الطريق أمام خلافات لا تتوقف مع الكتل الأخرى التى تختطف قرارنا، يومها عد ذلك الأمر سابقة، فالعرف أن تقدم المشروع دولة أوروبية أو عدد من دول مختلفة ونحن نساند أو نختلف معها وغالبا ما نختلف، كنت فى مهمة حكومية، بعد سنوات طويلة من عمل مستقل مع المنظمات الدولية والإقليمية، وأصررنا على تجربة عربية فى جنيف. وقيل يومها إن الحظ معنا باليمن، حيث يرأس المجموعة العربية سفير السودان د. مصطفى عثمان إسماعيل وهو وزير الخارجية الأسبق والأكثر شهرة.
قلت للرجل أنت سياسى شهير، ولكن اليوم احتاج إلى حكمة الطبيب وصبره فى توحيد الموقف العربى وترميم الجراح، وعدم الهزيمة أمام تكتلات دولية تضمر لنا السوء، وقد كان.
فالرجل محل تقدير من الجميع وشكل القاسم المشترك لأى حوار يجمع ولا يفرق.
لا أدرى أين ذهبت الأيام بالرجل الطيب، لكنى أحمل له جميلا وللسودان الشقيق كله.
ولن انسى أيضا ما حييت، فى تعز ونحن فى أوج حرب 2015، كان قصف الميليشيات الحوثية على أشده مع تحالفها ومعسكرات الحرس آنذاك، وكانت مسألة سقوط كل المدينة حديث كل الناس إلا القلة المؤمنة التى رفضت ذلك الاجتياح، ولاتزال تقاوم أسوأ حصار عنصرى يشهده التاريخ.
يومها غادر كل وافد تعز وبقيت قلة صامدة، منهم بعض العاملين فى مجال الصحة والتعليم من أبناء السودان. وعندما اتصلت أشكر بعضهم وهم جيران سكن وعمل، ورفاق وصحبة عمر، ردوا بكل حب الدنيا: احنا بين أهلنا يا (زول) فكيف نترك أهلنا ؟!
وانتم نعِمَ الأهل أيها ( الزولات) الأجمل.
فلتتوقف الحرب ويبقى السودان ملاذنا الآمن دوما.
تلكم هى كل مطالبنا، ولا نريد أن نصف لكم معنى الضياع وقسوة الحرب بين الإخوة أيها الأحبة.
الكاتب سفير اليمن في المغرب
نقلا عن جريده الاهرام المصريه