بلال الطيب:
«يا مُكسي العَاري ومُخضر العُود.. نَجي قَائد مِن حَرب لجْعُود»، هكذا توسلت إلى الله زوجة الشيخ قائد بن راجح، بعد أن توجه الأخير بمجاميع من قبيلته «بكيل» إلى جبال ردفان، تعزيزاً للقوات الإمامية المُنكسرة هناك، نجا «قائد»، وابتلعت ردفان مئات الجنود.
«استراحة مُحارب» لا أكثر، هكذا كانت الحرب العالمية الأولى بالنسبة لـ «المتوكل» يحيى حميد الدين، ليدخل بعد انتهائها في حروب طويلة مع اليمنيين، تفاصيل احتلاله لـ «الضالع، الشعيب، الأجعود، القطيب»، تشبه تماماً تفاصيل احتلاله لمناطق «اليمن الأسفل»، وكما قاومت «المقاطرة» توغله لعامين، قاومت «ردفان» توغله لعامين أيضاً.
كان ثمة توجه انجليزي بتسليمه أغلب المحميات الجنوبية؛ مع الحصول منه على بعض الامتيازات، الكرنل هارولد جاكوب كان من أكبر الداعين لذلك، توجه إلى صنعاء «أغسطس1919»، إلا أن قبيلة «القحري» التهامية حالت دون وصوله، خوفاً من ربط مصيرهم بالإمام.
كانت الحديدة حينها تحت سيطرة الإنجليز، احتفظوا بها لأنفسهم، وسلموا باقي مناطق تهامة لحليفهم الإدريسي، نكاية بالإمام، وكان الأخير قبل ذلك بفترة قصيرة قد توغل جنوباً، لعدم تأديب الإنجليز قبيلة «القحري».
من اللحظات الأولى لاجتياح القوات المتوكلية منطقة الضالع، تداعى رجال القبائل لمواجهتا، فشلوا في إيقاف توغلها، أكمل الغزاة احتلالهم لباقي المناطق، لتبدأ مع وصولهم تخوم ردفان مُقاومة شرسة، تصدرتها قبائل «العبدلي» و«القطيب»، وإلى الأخيرة ينتمي الثائر «لبوزة».
فشل الغزاة بتجاوز «دار الخروف»، عززوا تواجدهم بالمدفعية، وبقوات أكثر فاعلية، بقيادة الشيخ قائد بن راجح، لتدور على مشارف «الدار» عدة معارك، انتقلت المواجهات بعد ذلك إلى «الحصن»، و«رهوة المنقل»، و«حقلة»، وبسقوطها تحصن الثوار في «الداعري» و«الضنبري» الأكثر وعورة.
كانت معركة «الحصن» هي الأشهر، سقط فيها «الرويشاني»، قائد الغزاة الأبرز، أدركه المُقاومون وهو يحتضر، وفي ذلك قال أحدهم:
والعبدلي بالحصن سي ليه
لما وصل عند الرويشاني
قال اسقني وتبرء الذمه
والموت قد شفته بلعياني
يقول المؤرخ الردفاني، سالم راشد ذيبان: «كان الزيود يتصلون بمراكزهم بواسطة النفير، ويتفاهمون به، وقد أكثروا من ضرب الطبول والهيد، وكانوا يهتفون بأصوات مُرتفعة: يا إماماه.. يا متوكلاه.. وكلما سقطت منطقة، تمركزوا في منازل المواطنين، وفرضوا المصروفات عليهم».
نجح الغزاة في اختراق «وادي تيم»، وعلى ضفافه دارت أشرس المعارك، استمرت لشهرين، نقل الشاعر سعيد الحجيلي تفاصيلها بقصيدة طويلة، نقتطف منها:
شهرين ذي ضلت طوارفنا وكد
والنار بتوقد بحر أشعالها
ضرب المدافع والمرافع والهيد
زيدة بني مزيد وكثر انسالها
عاهيه جثثهم باقية في كل حد
للكلبة تجلس تعيّش حالها
مَشايخ كُثر قَدموا الطاعة للإمام، وتبعاً لذلك تَدخل بعضهم لإيقاف سعير المُواجهات، تنكر الغزاة لجهودهم، ولم يقبلوا شفاعتهم؛ يقول «ذيبان»: «تقدم جيش الزيود وهدموا دار الشيخ صالح عبدالحبيب، ولم يتمكن الشيخ ثابت عثمان في اقناعهم بالعدول عن ذلك»، الأمر الذي ولد ثارات وأحقاد، اُتهم «ثابت» بالتواطؤ مع الغزاة، قتله المقامون، وكذلك فعلوا بالشيخ صالح أسعد البكري، فيما بعد.
لم يخسر المشايخ الخانعون بلدهم وأهاليهم فحسب، بل خسروا أنفسهم، تعرضوا لصنوف شتى من الإذلال، صيرهم الغزاة ورعاياهم كعبيد لتوفير المؤن، وإيصالها مع الذخائر إلى أماكن المواجهات، ومن تخاذل منهم كان مصيره السجن.
وهذا الشيخ محمد صالح لخرم، لم يرحموا كُهولته، حبسوه لسبعة أشهر، ولم يفرجوا عنه إلا بعد أن افتدى نفسه بمال عظيم، وكذلك فعلوا بالشيخ عبدالنبي، والشيخ مقبل عبدالله، وقد نُقل عن الأخير قوله من سجنه في صنعاء:
قال أبو سيف من صنعاء ذكرت البلاد
وني كما الحيد ذي مابتليَّن حجاره
كان ذلك التخاذل من أهم أسباب سقوط ردفان «1921»، وفي ذلك قال «ذيبان»: «تمكن الزيود من التمركز وبناء المراتب في بلاد البكري، وفي سليك، حيث استخدموا الناس بالسخري.. فقدمت القبائل المقاومة الطاعة، وسلمت الرهائن..».
عُقد في القاهرة عام ذاك «مؤتمر الشرق الأوسط»، وكان من أهم توصياته الاعتراف بسلطة الإمام على المحميات، إلا أن المقيم السياسي في عدن عارض ذلك وبشدة، وقد ساهم ذلك التخبط الانجليزي بفتح شهية الإمام، طالبهم صراحة بأراضي أجداده؛ وأبتدأ بمراسلة السلاطين، وانخدع به البعض.
بفشل المفاوضات بين الانجليز والإمام يحيى «1923»، احتل الأخير «البيضاء، وإمارة العلوي، والأميري، والمسبعي، والعواذل العليا، والعواذل السفلى»، كما تمكن من السيطرة على تهامة «1925»، بعد أن رفع الانجليز أيديهم عنها، زال بذلك مبرر وجوده في المحميات، حسب رؤية المقيم السياسي، أرسل إليه الأخير بالسير جلبرت كليتون، إلا أنه عاد بعد شهرين من صنعاء خائباً.
بأسلوبه التقليدي المُذل، حكم الإمام تلك المحميات، عض حينها من ناصروه أصابع الندم، وتوجه بعضهم صوب الإنجليز طالبين المُساندة؛ وقد حمله المؤرخ «ذيبان» مسؤولية ذلك، قائلاً: «لو كان الإمام جعل حملته ذات طابع وطني، دون أن يُثقل كاهل المواطنين، ما تخلف عن أمره أحد».
وهذا أمين الريحاني أثناء رحلته إلى اليمن «1922»، التقى بمواطنين من «لحج، والحواشب، وماوية»، استغرب من تفضيلهم للأتراك والإنجليز على الإمام، قدم حينها نصيحته الصادقة للأخير، قائلاً: «لو حكم الإمام يحيى حكماً مدنياً بحتاً، لا حكماً زيدياً، لتمكن من تحقيق مطامعه السياسة، أما اليوم فالشوافع في حكمه غير راضين».
وهي الصورة ذاتها التي عمد عبدالعزيز الثعالبي على نقلها في كتابه «الرحلة اليمنية»، أثناء مروره في مدينة إب «1924»، صحيح أن رجالها منعهم الخوف من الإفصاح عن مكنونات استيائهم من الإمام وعساكره، إلا أن النساء تحدثن له بحسرة عن حكم الأتراك، وعن الخير الوفير الذي جادت به الأرض أثناء وجودهم، وأنهن لم يعرفن في عهدهم مجاعة ولا استلاب، مُتسائلات بحسرة: «متى يعود الأتراك»؟!.
اشتعلت جبال ردفان بالثورة «1928»، وتمكن أبطالها الصناديد من طرد الحامية الإمامية في «حصن سليك»، أرسل حاكم قعطبة بـ «900» مُقاتل، هزمهم الثوار، قتلوا «18»، وأسروا «8»، وأتموا ثورتهم باستعادة «الحامورة، والردوع، والدمنة، والبكري»، الأخيرة سلماً، وهكذا تحقق لهم النصر قبل تدخل الإنجليز.
وجد الانجليز في دعوة المشايخ لتدخلهم فرصة ذهبية للانتقام من الإمام، الذي تحالف نكاية بهم مع الروس والطليان، وبالفعل أرسلوا طائراتهم، وبقصفها المكثف فرَّ «الزيود» بصورة مُخزية، ولم يستثني القصف مدن شمالية، سقط بسببه عشرات الضحايا.
عشرات العساكر الزيود أصيبوا بالجنون، كونهم لم يألفوا أزيز الطائرات من قبل، ولا انفجارات «قنابرها»؛ حد تسميتهم؛ وحين تواردت الأخبار إلى صنعاء، بأن الأسطول الانجليزي رابض في سواحل الحديدة، استعداداً لاحتلال اليمن، سارع الإمام بنقل معظم أمواله إلى شمال الشمال.
كان بعض السلاطين قد تعاطوا إيجاباً مع مبادرات الإمام، إلا أنهم بعد أن رأوا سوء أعماله، ارتموا في أحضان الانجليز، وصاروا أكثر عمالة؛ وأكثر رفضاُ له ولتدخلاته، عقدوا مؤتمرا كبيراً «1929»، وفيه أشهروا توجههم الجديد.
تبعاً لذلك فتح الانجليز صفحة جديدة مع صنعاء، نجح «جاكوب» هذه المرة بالوصول إليها، كما نجح بانتزاع اعتراف من الإمام بالحدود الشطرية «11/فبراير/1934»، وسبق ذلك انسحاب الأخير سلماً من «العواذل» و«بيحان»، اللتان بقيتا تحت سيطرته.
نهاية الشهر التالي، دخل الإمام في مواجهات مسلحة مع «آل سعود»، تعرض لهزيمة ماحقة، ضعفت بعد ذلك قوته، وتبددت هيبته، وأخذ الأحرار «الدرادعه» كما كان يسميهم؛ يفكرون جدياً في كيفية التخلص منه، مُعلنين بدأ العد التنازلي لطي صفحته.
لمحات موجزة، لتاريخ مُشبع بالمُقاومة، أشار إليها معظم المؤرخين إشارة عابرة، وحده مؤرخ ردفان تعمق في تفاصيلها أكثر، عبر كتابه «من حقيبة الدهر»، ومن هنا تبرز أهمية إنعاش الذاكرة الشعبية، وعلى المُهتمين تولي تلك المهمة، كلٌ في محيطه، تماماً كما فعل «ذيبان».
قفلة:
وبرغمي يُصبح الغازي أخي
بعدما اضحى أخي أعدى الأعادي
ــــــــ «البردوني»