*صنعاء- همدان العليي :
لم يكن أمام صالح عبدالكريم إلا أن يستجيب لمطالب إدارة المدرسة، التي طلبت من أبنائه مبالغ مالية كدعم للبنك المركزي اليمني، بعد أن وجهت جماعة الحوثي عبر وزارة التربية والتعليم الخاضعة لسيطرتها بتنظيم حملات في المدارس تهدف إلى جمع الأموال من طلاب المدارس.
يقول عبدالكريم: “صعقت عندما قرأت الرسالة التي سلمني إياها ابني الصغير (8 سنوات) قال إنها من المدرسة، وتطالبني فيها بدفع مبلغ مالي لدعم البنك المركزي اليمني المهدد بالإفلاس. عندما سلمني الرسالة، اعتقدت لأول وهلة أنها تطلب مبلغاً لدعم مرتبات المدرسين المقطوعة منذ أشهر حتى يتمكنوا من مواصلة عملهم في التدريس، لكن لغة الرسالة كانت مشحونة بالعبارات الدينية ثم مفردات الحرب وضرورة دعم البنك المركزي لمواجهة ما وصفه بـ (العدوان الأميركي على اليمن)”.
وأضاف عبدالكريم أن أبناءه أكدوا له بأن “فريقاً مسلحاً من المقاتلين قدموا على متن سيارة عسكرية ودخلوا المدرسة ثم توزعوا على كافة الفصول، وألقوا محاضرة تحدثوا فيها عن أهمية دعم الاقتصاد ودعم البنك المركزي، وأن ذلك شكل من أشكال الجهاد ضد أعداء البلاد.
وعرضوا على الطلاب الصغار بعض صور الضحايا المدنيين القتلى وعلى ملابسهم الدماء، وحثوهم على التبرع للبنك المركزي من أجل الصمود في مواجهة الأعداء”، معبراً عن انزعاجه الشديد لهذا السلوك المرعب أمام الصغار من “يحملون أحاسيسَ مرهفة تجاه هذه المناظر، وسرعان ما يصدقون ما يقال لهم، خاصة مع ما يتم عرضه عليهم من صور ويلقى عليهم من آيات قرآنية”.
جيوب الحوثيين
يرجح عبدالكريم أن هذه الأموال تذهب إلى جيوب القيادات الحوثية، وإن كانوا يقولون إنها تذهب إلى البنك المركزي بسبب استمرار أزمة دفع مرتبات موظفي الحكومة منذ 4 أشهر.
يقول: “لم نسمع في أي زمان ومكان أن يتبرع المواطن الذي انقطع راتبه لأشهر لصالح البنك المركزي أكبر بنوك البلاد والمسؤول عن دفع الرواتب.
هذه الأموال تذهب لأرصدة المشرفين الحوثيين أو لقتل مزيد من اليمنيين”، مطالباً بالتوقف عن الاستمرار في إقحام المساجد والمدارس في قضايا سياسية بحتة كهذه تقدس الانتقام وسفك الدماء، خاصة أن من يقتل ويُقتَل يمنيون وعلى أرض يمنية.
“فتح ساحات المدارس لمواضيع كهذه تزيد حالات تجنيد الأطفال والقلق النفسي وتزيد الجدال السياسي العقيم، وترسخ الأحقاد في قلوب الأطفال الرطبة ضد أبناء المناطق الأخرى من نفس البلاد، وهذا ما نتوقع من التعليم محاربته”، مشيرا إلى أن الطلاب في أمس الحاجة اليوم إلى تعلّم قيم التسامح والوحدة الوطنية، ويحتاجون إلى مساحات مفتوحة من برامج الترفيه والمرح وأهمية التوحد ضد قضايا مشتركة مثل الفقر والأمية، مع إطلاق المواهب الفنية بعيداً عن كل هذه المواضيع السوداء، بحسب قوله.
ورغم معارضة عبدالكريم هذه الحملات، إلا أنه تبرع بمبلغ زهيد خوفاً من أن يتم استهداف أبنائه وعدم الاهتمام بهم في المدرسة، في حال رفض التبرع. يقول: “لم يكن أمامي إلا الاستجابة والتبرع خوفا من أن يتم إفشال أبنائي في المدرسة بسببي، أو تصنيفي ضمن مؤيدي الخصوم”.
سرقة الطلاب
من جانبه، يستنكر الأستاذ في إحدى المدارس الخاصة، يحيى أبو عمار، ما وصفه بـ “سرقة الطلاب” في ظل انحسار أسباب الرزق والظروف الصعبة التي يعيشها أولياء الأمور.
ويؤكد أبو عمار أن السلطات المسيطرة على المدينة تنهب الطلاب وأولياء الأمور “بمسميات شتى، فمنها حملات المجهود الحربي وحملات دعم البنك المركزي في ظاهرة غريبة لم يسبقهم إليها أحد”، مشيرًا إلى أنهم “قاموا بالنزول إلى المدارس وفي ظل عدم صرف الرواتب منذ حوالى خمسة أشهر، يطلبون من الطلاب التبرع”. يقول لـ “العربي الجديد”: “أوضاع المعلمين أكثر من مزرية، وبالرغم من إيجاد حلول لإنقاذ المدرسين، يجمع الحوثيون التبرعات من مصروفات الطلاب كدعم للبنك المركزي”.
وأضاف أبو عمار أن “مجاميع من المسلحين يدخلون المدارس ويقومون بأخذ مصروف الأطفال على مرأى ومسمع من المعلمين، الذين لا يتقاضون أجوراً يسدون بها رمقهم، لافتاً إلى أن المسلحين يأخذون ما يملكه الطلاب من مال ويتركونهم يتضورون جوعاً وخلفهم أسرة صبرت وربطت على بطنها، كي تعطي أطفالها ما يسدون به جوعهم”.
ويواصل: “لم نسمع من قبل أن البنوك المركزية لا تنهض إلا على أكتاف مصروف الأطفال والتلاميذ”. ويشير أبو عمار إلى أن بعض الطلاب يسقطون على الأرض مغشياً عليهم من أثر الجوع، بسبب شدة فقر أسرهم، وأن هذه أصبحت ظاهرة منتشرة في العديد من المدارس اليمنية. كما استغرب أبو عمار قيام الحوثيين بجمع الأموال من الفقراء والأطفال في المدارس، وترك التجار وأصحاب رؤوس الأموال الطائلة والسياسيين، الذين بإمكانهم التبرع دون أن تتغير أوضاع أسرهم.
طالب الثانوية، خالد الشرعبي، رفض التبرع للحوثيين، فهو يعرف أن هذه الأموال تذهب لقتل مدنيين غالباً في محافظة تعز وغيرها من مناطق القتال. يقول لـ “العربي الجديد”: “عندما جاء المسلحون للمدرسة، طلبوا منا التبرع للبنك المركزي لأنه سيفلس، لكني أعرف أنهم يأخذون الأموال من أجل قتل اليمنيين ولهذا رفضت التبرع بمصروفي اليومي رغم كلامهم الحماسي والذي أثر في أغلب زملائي”.
وأضاف: “قتلت الحرب بعض أفراد أسرتي، فكيف أصدقهم بأنهم يجمعون الأموال من أجل الحفاظ على الاقتصاد؟ كيف نصدقهم بأنهم يريدون مصلحة اليمن وهم من تسببوا بتدميره؟”، لافتا إلى أنه لا يخشى أن يقوم بعض المدرسين المؤيدين للحوثي بمعاقبته عن طريق خصم بعض الدرجات، فهو يؤمن بأنه يفعل العمل الصحيح.
ويشير الشرعبي إلى أن كثيرًا من المدرسين رفضوا حملات التبرع هذه، لكنهم لم يستطيعوا إيقافها أو منع المسلحين من تنفيذها في المدارس أو إبداء رفضهم خوفا من أن يتعرضوا للأذى.
سوء تغذية
تساهم الحرب المستمرة في اليمن في نتائج سيئة غير مسبوقة على الصعيد الإنساني، خصوصاً لدى الأطفال في سنواتهم الأولى وطلاب المدارس. وكانت أحدث تلك النتائج بلوغ الوضع الإنساني والصحي للأطفال أعلى معدلات الخطورة بتضاعف عدد المصابين بسوء التغذية الحاد إلى 460 ألف حالة، أي بزيادة 200 بالمائة عن نفس عدد الحالات قبل الحرب عام 2014.
وبلغ عدد الأطفال اليمنيين الذين يعانون من سوء التغذية الحاد المزمن (التقزم) نحو 2.2 مليون طفل يحتاجون إلى المساعدة الطارئة بحسب منظمة الأمم المتحدة للطفولة “يونيسف”. وهي أرقام عالية جداً وحرجة تضع اليمن ضمن أسوأ سبع دول على خريطة سوء التغذية في العالم، حيث أصبح الحصول على الغذاء أكثر صعوبة. وتؤكد اليونيسف بأن الأطفال أكثر من يدفع ثمن الحرب في اليمن، إذ أن سوء التغذية والأمراض يتسببان بوفاة طفل واحد على الأقل كل عشر دقائق. ولم تنفق المنظمات الدولية على مكافحة سوء التغذية خلال العام المنصرم سوى 61 مليون دولار بالإضافة إلى 30 مليون دولار لتسيير العملية التعليمية، ليعد ذلك دعما شديد التواضع ولا يرافقه أي دعم من الحكومة اليمنية أو سلطات الحوثيين.
*نقلا عن العربي الجديد اللندنية.