كما فى كرة القدم نجد فى مختلف مناحى الحياة، نموذج لاعبى الوسط، أو صانعى الألعاب، هؤلاء مهمون بالنسبة للفريق وهم أساس الفوز، ولكنهم غير منظورين.
لا يحتلون صدارة الأخبار، ولا صدارة الاهتمام، يعرفهم من يُقّدر العمل ويُدرك أبعاد القضية، أما العامة من الناس فتمر عليهم مرور الكرام.
وعلى مستوى الأسرة دوما ما نتحدث عن الطفل (الوسطاني) وهو ليس بالضرورة ترتيبه الوسط، بل هو الابن أو البنت الأكثر قدرة على صنع التواصل فى الأسرة، ومن عليه أن يصنع الألعاب للكبير ويمهد الطريق للصغير .
أما فى السياسة والأحزاب، فلا تزال مواقف الوسط على الأقل فى صراع دول الديمقراطيات الحزبية، هى المواقف المرجحة، رغم بروز جنون التطرف الذى نراه يعصف بديمقراطيات عتيدة، وذلك على غير وضع معظم بلدان الشرق الأوسط، (وهنا نضع خطا تحت الأوسط لنؤكد أهمية موقعنا) فما عادت تجدى المواقف الوسط أمام انهيار منظومات الأحزاب من أساسها، وفقدنا اليسار واليمين وما ظهر الوسط.
فى اللغة يشار للوسط بالعقل أو العدل (قال أوسطهم) كما فى الآية الكريمة أى قال أعدلهم.
أما فى الصراع الاجتماعى واستقرار المجتمعات وتطور التنمية، تبقى الطبقة الوسطى هى أساس التطور التنموي، بل والاستقرار بشكل عام، فالقلة الغنية على رأس الهرم تكون علاقتها بهذا الوطن عموما وليس المجتمع فقط، فى معظم الوقت بحالة توتر والبعض منهم يجعلها علاقة أقرب إلى مشروع الصفقات، إذا رأوا أنها مربحة تستمر العلاقة الحميمة وإذا كان فيها مخاطرة يفكرون بالرحيل والهجران أو الانكفاء، والطبقات المسحوقة غالبا ما تكون فى دائرة التذمر والغضب هذا إذا لم تذهب إلى مربع الإحباط، فهى تريد من يفتح لها الطرق أمام حصار الفقر والجهل وقلة الحيلة.
وحدها الطبقة الوسطى تتحمل معظم العبء من أجل الاستقرار، ربما نتشيع لهذه النظرة لأن معظمنا جاء من هذه الفئة التى يرمقها الجميع بنظرة عدم الحب، وأحيانا بما هو أشد فأنت فى مجالس الثراء، قارئ مزعج تفوح منك رائحة الحبر وورق الصحف والكتب بينما هنا الغرام لورق البنكنوت، وعندما تعود إلى قواعد النضال مع هوامش القهر ترمقك عيون الأفقر منك بنظرات الريبة لمجرد حذاء جديد أو لحرصك على هندامك.
وتجد نفسك مثل لاعب الوسط بكرة القدم فى مباراة فاصلة، حيث يهتف الجمهور لخط الهجوم وحده وتصوب العدسات نحو قناص الفرص وحده والذى يمهد له الطريق كل الفريق، وبقية جماهير المشجعين من الناس تتعاطف مع خط الدفاع المستميت الذى ينقذ العرين ويرقبك أنت لاعب الوسط بشذر إذا لم تمنع عن الدفاع والمرمى الهجمات وتمهد الطريق لفريق الهجوم.
كذلك هم أفراد الطبقة الوسطى من أساتذة جامعات و معلمين وأطباء ومهندسين وكتاب وطواقم صحية وتربوية يجاهدون دون خطاب عال من أجل عجلة اقتصاد يرفع قلة لا ترى أسفل قدمها، وأخرى تجرك نحوها.
وحدهم العابرون للطبقات، الذين جعلوا جهد كل هذه الفئات مجرد عزف منفرد يصب فى مصالحهم، هؤلاء دخلوا علينا من أبواب متفرقة غير العمل والجهد، يشبهون سماسرة بيع اللاعبين ومتحكمى بورصة الرياضة، من متعهدى إعلانات ونقل أفراد وشراء أندية، ليسوا من محترفى السياسة التقليديين الذين نعرفهم، بل هم أقرب لتجار البشر فى العصور الغابرة.
إنهم يضربون كل وسط وليس فقط فئة الوسط، وللأسف تجدهم فى كل وسط.
وستبقى الوصفة السحرية للنهوض بالأوطان وخلق الاستقرار، وجود وسط مستقر متعلم، وتلك وصفة تعنى إعادة الاعتبار لكل برامج التعليم والصحة.
فالمجتمعات العليلة لا يمكن لها أن تنهض، والشعوب التى خذلتها مؤسسات التعليم ستبقى قطيعا لا يصنع فارقا فى خريطة الحضارة الإنسانية.
وسنبقى نؤمن أن أهم جغرافيا فى الأرض هى (الشرق الأوسط)، وفيها أعظم تاريخ صُنع فى وسط هذا الشرق المحاصر، وأن خير الأمور أوسطها، وأعقل المواقف هى مواقف الوسط المتأنية فى كل شيء، عدا مواقف السيارات ومقاعد الطائرة.
الكاتب سفير اليمن في المغرب
نقلا عن الاهرام القاهريه