*طلال سلمان :
على امتداد الأسبوعين الأخيرين، تبارت وسائل الإعلام العربية (والأجنبية إلى حد ما) فى «رثــاء» جـــريدة «الســفير» اللبنانية.. والبــعض أضــاف إلــى «السفير» جريدة «النهار» العريقة والتى تعيش بدورها أزمة حادة تتهددها فى وجودها، ولأسباب مالية بالدرجة الأولى.
وفى أخبار القاهرة أن الصحف المصرية عموما تعيش ظروفا صعبة فى ظل تعاظم نفقات الإصدار وتناقص المبيعات والإعلانات معا.. ويمكن أن يضاف إلى هذا وذاك تأثير المواقع الإلكترونية كوسائط للإعلام والتواصل الاجتماعى، بما يهدد استمرارية الصحف (كورق..).
***
لنستبعد الصحف الحكومية أو التى ترعاها وتمولها الدولة كما فى مصر وسوريا والسعودية وإمارات الخليج العربى، عموما، وكذلك الفوضى الصحفية فى العراق، باعتبارها امتدادا لمناخات الفوضى الحربية والفساد فى السلطة، وكذلك مثيلاتها فى الجزائر، لأن وجودها يرتبط بقرارات حكومية وليس بقانون العرض والطلب ومقتضيات السوق..
النتيجة التى يخلص إليها أن الصحافة العربية، التى فقدت فى السنوات الأخيرة، جمهورها بكتلته العظمى، مهددة فى وجودها ذاته.
وليس صحيحا أن وسائل التواصل الاجتماعى، على خطورة الزلزال الذى أحدثته فى عالم الاتصالات، هى السبب الوحيد، أو السبب الأهم، فى التراجع المفجع الذى يشهده انتشار الصحافة (المكتوبة) وبالتالى تأثيرها فى مجتمعاتها، ليس على المستوى السياسى وحده، بل كذلك على المستوى الاجتماعى والثقافى، بل إن الأمر أخطر من ذلك بكثير ويمكن اختصاره بانعدام الحياة السياسية فى المشرق كما فى المغرب العربى، مع استثناءات محددة ومحدودة لا تسقط القاعدة بل هى تؤكدها.
بين الأسباب الفعلية التى لا يريد احد إعلانها: تؤكد اندثار السياسة كعمل جماعى وتتهاوى مؤسساتها الطبيعية، كالأحزاب السياسية والنقابات المهنية (أطباء، مهندســون، محامون… الخ)، والتى تؤكد حيوية المجتمع وتطلعه إلى تحقيق التقدم وتأكيد قدرته على الإنتاج ثقافيا وصناعيا وزراعيا وفى مجالات العلوم طبا وهندسة كما فى ميدان الاختراع أو تطوير ما يحتاجه مجتمعه من أسباب الإنتاج.
هذا فضلا عن كون الصحافة شهادة تقدم لمجتمعها، كما هى شهادة جدارة لنظام الحكم بكونه «ديمقراطيا» ويمثل شعبه بالانتخابات وليس بالاستفتاء المعلنة نتائجه قبل تنظيمه..
***
وكان لبنان بنظامه الطوائفى الذى يعتبر ديمقراطيا بالمقارنة مع سائر الأنظمة العربية التى تتراوح بين العسكر والبداوة التى تحصر الملك فى العائلة المذهبة، التى أخذت الحكم بالسيف قبل أن تضيف إليه، الذهب الأسود، أو بالذهب الخالص معززا بالدعم الأجنبى التى استولدت من المشيخات دولا فى قلب الصحراء.
وبفضل التعدد الطائفى والرعاية الأجنبية لهذا الكيان السياسى الذى استولدته – بصيغته الراهنة ــ معاهــدة المنتصرين فى الـحـرب العالمية الأولى (سايكس – بيكو)، فقد ابتدع له نظام طوائفى وزعت مناصبه على زعامات طوائفه عبر توازنات هشة، فرضت الديموغرافيا تعديلها أكثر من مرة، كما فرضت التراتبية الطوائفية فى السلطة بقصد تعزيز النظام الطوائفى لمنع إسقاطه بالثورة ومطالب المساواة بين المواطنين فى الحقوق والواجبات.
ومع أن هذا النظام الطوائفى كان موضع اعتراض شعبى واسع، بلغ أحيانا حد الانتفاض شعبيا ضده، إلا أن التزكية الذهبية جاءته عبر المقارنة بينه وبين الأنظمة العربية الأخرى والتى انحصرت فى نوعين: الأول جاءت به الانقلابات العسكرية – سواء باسم الأحزاب أم من دونها – والثانى جاءت به الثروة بعد اكتشاف النفط فى مختلف أنحاء الخليج العربى وقامت فيها أنظمة شبه ملكية تستند إلى الثروات المخبوءة والتى خلخلت الأحجام فحلّ الأغنى محل الأكبر، وحلّ الأعظم حماية محل النظام الأقوى بتأييد شعبه واندفاعه إلى إنتاج حاجياته والاستغناء عن الخارج.
على أن هذا النظام الطوائفى فى لبنان كان بحاجة إلى هامش من الحرية ليعيش ويصبح مقبولا، وبالذات حرية التعبير والعمل السياسى، مما جعل منه جزيرة إعلامية أفادت مختلف الأنظمة العربية من هامش الحرية فيه فى الدفاع عن قضاياها الوطنية والقومية والدعوة للتضامن على طريق الوحدة الاستقلال.. أو محاولة تبرير ديكتاتوريتها وقراراتها الهمايونية.
على أن هذا النظام الطوائفى فى لبنان كان بحاجة إلى هامش من الحرية ليعيش ويصبح مقبولا، وبالذات حرية التعبير والعمل السياسى، مما جعل منه جزيرة إعلامية أفادت مختلف الأنظمة العربية من هامش الحرية فيه فى الدفاع عن قضاياها الوطنية والقومية والدعوة للتضامن على طريق الوحدة الاستقلال.. أو محاولة تبرير ديكتاتوريتها وقراراتها الهمايونية.
***
هكذا شهد لبنان آواخر الخمسينيات وبامتداد الستينيات وحتى منتصف السبعينيات طفرة صحفية واسعة ومؤثرة (بلغ عدد الصحف اليومية أكثر من خمس وعشرين والمجلات الأسبوعية حوالى عشرة).. وكان لكل نظام عربى صحف يرعاها مباشرة (أو بالطلب) لمواجهة «صحف الخارج المعادى وإذاعاته»، أو الترويج لدعوات التحرر والوحدة والاشتراكية..
ولقد خلقت الحرب بيـــن «المعسكرين» العربييـــن حـــيويـــة سياســية وثقــافية، ووفرت للصحف والمجلات أسواقا واسعة، أمدتها – إضافة إلى القراء – بالإعلانات التجارية (والسياسية)… فضلا عن الرعاية الخاصة التى وفرتها بعض الأنظمة لمطبوعات بالذات رأت فيها «خط الدفاع الأول» عن توجهاتها السياسية أو عن ارتباطاتها، فضلا عن موقعها فى الصراع بين الأنظمة، جمهورية وملكية، تقدمية ورجعية… الخ.
على أن ذلك عصر مضى وانقضى بانطفاء شعلة العروبة، أقله على المستوى الرسمى، وتراجع قضية فلسطين، بثورتها، بعد خروج مصر من ساحة المعركة، وتناقص الدور التحريضى السورى بعد اتفاق وقف الاشتباك مع العدو الإسرائيلى، ثمّ هزيمة نظام صدام حسين بعد حربه الطويلة ضد إيران ثمّ غزوته الكويت التى مهدت للاحتلال الأمريكى أن يدخل العراق فيحتله ويعيد بناء النظام باستغلال «الظلامات التاريخية» ذات الجذور الطائفية.
تراجع دور لبنان الذى شغلته الصراعات العربية، وأمدته كمنتدى وشارع بحيوية فائقة وجعلته – لفترة – عاصمة للصحافة وربما للنشر عموما (بعد فرض العقوبات على النظام فى مصر والتى انعكست على شعبها).
وعادت الصحف فى لبنان محلية السوق، بشكل عام، وإن ظلّ لها قدر من التأثير فى الرأى العام العربى بفضل هامش الحرية الذى تتمتع به فى ظل النظام الطوائفى القائم على التوازنات الدقيقة المحلية – العربية ــ الدولية.
وبالتأكيد فإن لبنان كمنتدى ثقافى ودار حوار، وشارع وطنى عربى ومنبر إعلامى، قد أصابه ضرر عظيم…. فزوى دوره، حتى فى مجال الاقتصاد والسياحة والاصطياف، فضلا عن الصحافة والكتاب والثقافة عموما.
***
لقد اختلف الزمان.. وغاب العرب عن المسرح، وعادت بلادهم مرتهنة لإرادة الأجنبى (بالقيادة الإسرائيلية)، يحكمها من لا تاريخ لهم ولا ذكر فى مجال العمل من أجل الاستقلال والحرية والتقدم.
فكيف تعيش الصحافة فى لبنان فى عصر الانشقاق العربى الذى بلغ حدود الاحتراب، وحلول الدينار محل العقائد، والسلاح محل الأفكار… وكيف يحمى وجود الصحافة من لا يعرفها أو من يخاف منها أو من ينظر إليها كوسيلة إضافية من وسائل تدجين الرأى العام بالبروباجندا وقرع طبول الانتصار لطمس معالم الهزيمة، سياسيا وثقافيا وعسكريا، فى عصر الحروب الأهلية التى يمكن للاحتلال الإسرائيلى ودولة عدوانه.. بينما تتهاوى الدول العربية ذات التاريخ وتسقط فريسة الطائفية والمذهبية وطلب الحماية الأجنبية؟!
*رئيس تحرير صحيفة السفير