قريبا على ما يبدو سنتحول إلى كائنات افتراضية، مرد هذا الاعتقاد خواطر إعلامية تداعت فى ذهنى جراء التحولات الكبرى التى يشهدها عالمنا. نحن نركض فى زمن مجنون يحتاج عقلا آخر بجانب ما نملك وليس أن نضيع القليل الذى نملك منه فى تفاهات صغيرة. فصراع العالم على التكنولوجيا ومصادر المعرفة الجديدة والطاقة الجديدة المتجددة وغيرها يجعلك فى زمن آخر غير هذا المستنقع الذى يغرق فيه الوطن العربى ومواطنوه.
خذ عندك هذا الإعلام وتطور وسائله لتعرف الفجوة الزمنية. كان قرار إنشاء صحيفة إخبارية يعد حدثا يستحق أن يكتب عنه الباحث لأهمية ما يمكن أن تصنعه الجريدة فى صنع الرأى العام، اما إنشاء إذاعة أو الاستيلاء على تليفزيون فيعنى الاستيلاء على الدولة. الآن الصحافة الورقية تموت حرفيا وصار الفضاء الإلكترونى بديلا يسيطر على كل شيء حتى أنى أدرك أنك تقرأ هذه الأسطر من هاتفك وأنت على عجل فى مكان لم تتبين ملامحه ولا المحيطون بك لفرط انشغالك بمراسلات الهاتف والتنقل بين عوالم أخرى فى فضاء إلكترونى لا علاقة له بالمكان، وليس كما كنت أتمنى أن تقرأ الأسطر وبيدك الجريدة ورائحة الحبر تزاحم نكهة الشاى وأنت جالس رجل على رجل فى ناصية مقهى يعج بكوكبة من المثقفين الذين ينشغلون فى حوار عن التحديات !.
(أنا من جيل جُبل على جعل أى عمق للنقاش هو عن التحديات أى تحديات لا يهم المهم تحديات).
تلك صورة انتهت وستجد حولك فى الطريق المزدحم أو لحظة انتظار إشارة المرور من يضغط على هاتف جوال ويرسل صورة أو عبارة تتحول إلى حدث !. وليس انتظار مقال عميق فى جريدة، بل مجرد عبارة أو صورة لشخص لا يعرف هو نفسه كيف يقدم حاله إليك يصير حدثا. لن أتحدث عن التطور فى وسائل الإعلام ولكن ما يهمنى هذا التكريس المخيف لقيم عالمية جديدة لا نستطيع أن نسهم فيه كمجتمع. نعم ستنتهى الصحافة الورقية كما سينتهى التليفزيون حيث نرى الآن أن المنصات الإلكترونية تحل محله وأن مراهقة تنشيء قناة على الفضاء الإلكترونى لتصوير جزء من طلاء الأظافر يتابعها الملايين بينما محطات التليفزيون الأرضى ترسل بثا لأيام طويلة ولا ينتبه إليها أحد (هذا حدث حرفيا) وليس مبالغة. كنت مع صديق مسئول إعلامى كبير وصلته شكوى من ضيف استضافه تليفزيون قنوات الرتابة التى لم تعد تشد انتباه المتابع ويقول له إن القناة بثت اللقاء له دون إكمال المونتاج وان الشريط الذى يمشى الآن يصور الدردشات الجانبية وفيه ملاحظات المخرج والمصور والمرح الذى يتم قبل التصوير، أى الشريط الخام لكاميرا مثبتة، صعق المسئول واتصل بالمشرفين فاتضح أن لا أحد من العاملين فى البرنامج أو كل القناة يتابعها، لم يكن هناك غير الضيف الكريم.
تلك حالات سنراها تتكرر فى تليفزيونات لا تحصى، بينما المجاميع تزحف نحو صناعة جديدة للقيم وفضاء سيتحكم بنا أكثر مادمنا خارج نطاق المعرفة. وخلال الأيام الماضية حضرت العديد من نقاشات وحوارات المنتديات فى عالم التقنية الافتراضية. ولكن ما لفت نظرى هو دعوة بعض الأشخاص ليس بالضرورة شباب لكن يميزهم سطحية القول وتفاهة العرض وقبل أن أندهش لجعل مثل هؤلاء متحدثين رسميين وموجهين فعليين للرأى العام!. قيل لى انهم يدعون بصفتهم مؤثرين مجتمعيا، والآن يكرس مصطلح (مؤثر مجتمعي) أمام أسماء عدد هائل من هواة التهريج فى الفضاء الإلكترونى وهو مصطلح سترونه ينتشر ويكرس كما تم مع مصطلحات ( ناشط/ة مجتمعى ) ناشط حقوقى وناشط إعلامى الآن لدينا مؤثر مجتمعى. وتقوم مؤسسات إعلامية وجهات سياسية دولية بدعوتهم بجدية لمناقشة قضايا تحولات الأحداث بصفة أن لديهم منصات إلكترونية يتابعها الملايين!.
لأخرج بيقين أن تكريس (زمن التفاهة) أبعد حتى مما ذهب إليه الدكتور آلان دونو فى كتابه نظام التفاهة. فنحن فى محيط دولى يتجاوزنا معرفيا فى كل لحظة، ويكرس بقاء هذه المنطقة كحفرة عميقة للتخلف. بعد أن كانت منصة إشعاع للعقل. والأدهى من ذلك أننا نهبها مشاعا لكل طامع يكرس فينا حالة من الضياع العربى لم يشهد له التاريخ مثيلا . من صراعات لا معنى لها وتغييب للعقل وتكريس لتفاهات عدة ليس أقلها هذا الفضاء الذى يصنع بدائل مشوهة وصدارة مشهد مخيف.
الأمر ليس ندبا ولطما على الخدود بل ضرورة، وصرخة لإعادة امتلاك منصة المعرفة، من أجل وطن يراد له أن يخرج من التاريخ مجددا، ومن أجل تحرك نخبة تضيع فى فضاء لا تدرك خطورة خروجها منه، وجعله فى مهب الريح، وصرخة لأنظمة ستجد نفسها أحوج ما تكون لعقلاء يعارضون بدلا من ضخ قطيع يتسيد المشهد وكل فرحته أن يكون مؤثرا مجتمعيا مهمته فقط هدم المعبد على من فيه. نحتاج إلى أصوات تعيد نخبة عقل المعارضة قبل أن نصبح خارج التاريخ وفى فضاء كائنات لا نعلم ملامحها.
الكاتب : سفير اليمن في المغرب
نقلا عن جريده الاهرام القاهريه