بعد عام من الغياب والقطيعة مع صنعاء وصل المبعوث الأممى مارتن جريفيث إلى العاصمة اليمنية المختطفة من قبل ميليشيا الحوثى للقاء زعيم الجماعة التى تقود حربا فى اليمن منذ سبتمبر 2014. والزيارة التى وصفت بأنها وداعية تأتى فى وقت يشهد فيها الملف اليمنى حراكا دوليا ولقاءات لم تتوقف فى مسقط والرياض للقاء الأطراف المختلفة والوسطاء الإقليميين والدوليين، وضمن حراك أوسع يشمل العلاقات مع إيران ودورها المتزايد فى هذا الملف القابل للتصعيد.
البيان الصحفى الذى أدلى به جريفيث وهو يغادر مطار صنعاء فى آخر يوم من مايو الأسبوع الماضى كان بيانا واضحا فيه توديع الرجل الساحة بظلال من الإحباط والكثير من الأمنيات ورمى اللوم على اليمنيين الذين تفتك بهم حرب مدمرة وانقسامات لا تنتهي.
القيادات الحوثية أمعنت فى إظهار الامتهان للرجل الذى لم يأت إلى صنعاء منذ عام كامل ورفضت الجماعة المتمردة على الشرعية لقاء الرجل فى أشهر خدمته الأخيرة وعادت والتقته به من خلال وفدها الهامشى المقيم فى مسقط ثم سفره إلى صنعاء ليلتقى بقيادات الميليشيا هناك. وما لفت الأنظار هو عودة طريقة نشر الأخبار لهكذا لقاءات غامضة مع زعيم الحوثيين عبدالملك الحوثي، حيث يرد الخبر الصحفى دون أى صورة لا متحركة ولا ثابتة، وفى خبر يصل إلى ثلاثمائة كلمة تورده وكالة الميليشيا.
ويبقى غموض زعيم الميليشيا وتواجده سيد الموقف هل اللقاء تم عبر دائرة تليفزيونية مغلقة ؟ وأن الرجل غير موجود فى اليمن أصلا؟ أم أنه فى مكان خفى تحت إجراءات أمنية لا تسمح بمجرد صورة؟ الحوثى الذى يظهر كثيرا فى خطابات متلفزة منها ثلاثون خطابا فى رمضان فقط لا يظهر المكان ولا أى معالم ولا أى نشاط فيه لقاء مباشر بالبشر . وكما يطلق عليه فى اليمن فإن (فتى الكهف) فى ذعر حقيقى ولا يسمح بلقاء أى كان، بعد تحقق تهديدات جدية كادت تنال من حياته، بينما رواية إعلامية مقربة ترى أن الرجل صار فعلا خارج جغرافية صنعاء !! ولهذا لاصور للرجل فى صنعاء.
ولكن ما لفت الأنظار أكثر فى الزيارة هو ضرب الجماعة لكل فكرة لإطلاق أى أمل بوقف الحرب والبدء بحوار للسلام والإمعان بخطاب الحرب والتماهى مع خط طهران كما لم يسبق بهذا الوضوح. بل إن التهدئة غير المعلنة والهشة التى ربما لم تدم ثلاثة أسابيع فى توقف ضربات الطيران المسير نحو المملكة العربية السعودية، أو فى قصف مدينة مأرب شرق اليمن عادت وشهدت مدينة مأرب التاريخية ومهد السبائيين قصفا أعنف مما كان عليه الوضع الشهر الماضي.
وارتفع خطاب ميليشيا الحوثى المناهض لدعوات السلام التى يحاول الوسيط الأمريكى (تيم ليندركينج) أن يجد لها صدى فى آذان قادة الحوثى التى لا تسمع غير صرخات المرشد فى طهران. لهذا يجب على المتتبع لمسار التأثير فى حوار ملف اليمن أن تكون إحدى عينيه على ما يجرى من حوارات خليجية ــ إيرانية من ناحية والعين الأخرى لا تغادر ما يجرى فى فيينا من حوارات الملف النووى الإيراني. فطهران تدرك أهمية البيدق اليمنى الذى تحركه فى صنعاء لوضع معادلة جديدة تخدم مسار حلم الثورة الإيرانية الذى لا يتوقف حتى يبقى كابوسا على المنطقة !!
ان هذه المعادلة المؤلمة يدفع ثمنها الشعب اليمنى دما ودموعا ونزوحا حتى وصل إلى مأساة إنسانية لا توصف ( فيها عشرات الآلاف من القتلى وأضعافهم من الجرحى والمعاقين فقد زرعت ميليشيات الحوثى أكثر من مليون لغم خلفت إصابة أكثر من ثلاثين ألف مدنى وأخفت هذه الجماعة أكثر من الفين وخمسمائة مدنى فى مسلسل رعب لا ينتهي) وتفتح مسارا أكثر رعبا على مستقبل اليمن من تنامى الدور الإيرانى وتصاعد دور طهران (وهى قضية بحاجة إلى نقاش أعمق).
ولكن يبقى أفق الحل فى إعادة الأمور إلى نصابها من وقف كارثة الحرب ووقف العنف المتصاعد وخطورة الأمور على مستوى مستقبل اليمن وأجياله القادمة من تعميق الانقسام والتشظى وتعزيز خطاب العنف والتطرف وتكريس الانغلاق الفكرى والسياسي.
كل ذلك لا يكون فى الذهاب إلى إرضاء قادة طهران الذين لن يتوقف طموحهم عند جبال اليمن حتما، بل يكون الأمر بإعادة الاعتبار للقوى المناهضة لمشروع الميليشيا والتطرف عموما، وإعادة تنظيم المسار الوطنى اليمنى وإصلاح خلل مؤسساته واستنهاض الكتلة الوطنية التاريخية فى المجتمع اليمني.
نحتاج الآن مع هذا الزخم نحو خطاب وقف الحرب إلى رفع صوت المجتمع ضد خطاب الكراهية وتمزيق الدولة وتقسيم الوطن وضد خطاب التطرف والعمل على إعادة الاعتبار لمؤسسات الدولة وللكتلة التاريخية الوطنية التى هى ملاذ للبلد والقادرة على صنع مشروع حضارى ينقذ اليمن من التمزق والحرب، والتصدى للمشروعات الصغيرة من نظريات التطرف الدينى والانقسامات المناطقية. أما صياغة اتفاقات تهدىء من حال المتحاربين وإبقاء خطاب الحرب والانقسام العميق وجذور المشكلة، فذلك منطق يؤسس لمسار معروف اسمه حروب الوكالات وسنبقى فى دوامة حرب تلد أخرى.
نقلا عن جرده الاهرام المصريه
الكاتب سفير اليمن في المملكه المعربيه