عندما وطأت قدماه لأول مرة المدرسة التي سيعلّم فيها في قرية باريتوادي بولاية ماهاراشترا الهندية، شعر المُدرس الشاب بالصدمة عندما اصطحبه مدير المدرسة للفصل الدراسي، فقد كان المكان يُستخدم كحظيرة للبقر والجاموس. بعد 10 سنوات، حصل رانجيتسين ديسيل على “جائزة المعلم العالمية” المرموقة، التي تبلغ قيمتها المادية مليون دولار وتُمنح لصانعي التغيير ومن يتجاوزون المألوف لتأدية رسالتهم السامية.
في حوار مع أخبار الأمم المتحدة، يستذكر رانجيتسين ديسيل الخامس من كانون الثاني/يناير 2009، عندما وصل إلى المدرسة للمرة الأولى.
“كنت مندهشا جدا، لم أستطع أن أصدق أن أي فصل دراسي في القرن الحادي والعشرين يبدو بهذا الشكل”. وأضاف أن أكثر ما أثار استغرابه هو أن الآباء لم يعترضوا على هذا الوضع ولم يعرفوا أهمية التعليم.
“كانت أكبر التحديات هي قلّة الوعي بين الآباء، والموقف اللامبالي تجاه التعليم، وضعف حضور الأطفال للفصل، وضعف الأداء في الامتحانات”.
وعلاوة على ذلك، واجه رانجيتسين غضب السكان الذين رشقوه بالحجارة وأطلقوا النار على عجلة دراجته النارية.
“النساء أقل تعليما وأكثر ذكاء”
في الأشهر الستة الأولى، توجه رانجيتسين إلى منازل أهالي القرية لجمع المعلومات بشأن الظروف الاقتصادية للأسر، والديانة والتعليم والثقافة وطريقة التفكير. وتوصّل إلى نتيجة مفادها بأن نساء القرّية أكثر ذكاء على الرغم من أنهنّ أقل تعليما. وهنا قام بالاستعانة بالأمهات لتعليم الأطفال.
وقال: “أعتقد أن الأطفال والآباء والمعلمين هم الركائز الثلاثة للتعليم. إذا اجتمعت هذه الأيدي الثلاثة معا، يمكن أن تحدث المعجزات”.
مواجهة التقاليد
كان أصعب ما واجهه المعلم الشاب هو إقناع الناس بإرسال الفتيات إلى المدرسة. فالفتيات يعملن في الغالب في الحقل أو بالأعمال المنزلية، والتعليم مقصور على الصبيان. كما أن الزواج المبكر متعارف عليه.
وعام 2010، علم رانجيتسين بزواج طفلة في القرية تبلغ من العمر 13 عاما، وسرعان ما توجه إلى منزل أسرتها وسعى لإيقاف الزواج بتدخل من الشرطة. بعد هذه الحادثة، سعى المعلم للانخراط مع المجتمع المحلي وبدأ بمحاولة إقناعه بأضرار الزواج المبكر، وتأثير ذلك على الصحة العقلية والبدنية ووضع الفتيات العلمي والمالي.
وبعدها بدأ بدعوة الفتيات المتعلمات والأطباء والشرطة العاملين مع النساء من مناطق أخرى للالتقاء بالمجتمع المحلي في تلك القرية. وعندما شاركت الفتيات تجاربهن مع الآباء في القرية، أصبحن أكثر إلهاما لهم، بحسب المدرّس الشاب.
اليوم، يفخر رانجيتسين بالقضاء على الزواج المبكر في قرية باريتوادي، مع انتظام الطلاب في المدرسة بنسبة 100%.
التركيز على التكنولوجيا
بدأ الأطفال تدريجيا في القدوم إلى المدرسة، لكن كان من الضروري أيضا الحفاظ على شغفهم بالتعليم. ورانجيتسين المولع بالتكنولوجيا بدأ باستخدام هوايته باللعب على الكمبيوتر معهم. “كنت واثقا من أنه باستخدام التكنولوجيا يمكنني سد الفجوة بين الهند الريفية والحضرية”.
اشترى المدرّس الشاب كمبيوتر محمولا بمساعدة والده، وبدأ بعرض الأفلام يوميا أمام طلاب المدرسة. الفكرة من وراء ذلك هي أن هؤلاء الأطفال سيخبرون نظراءهم عن الفيلم وسيحضر أطفال آخرون إلى المدرسة لمشاهدة الأفلام.
والآن مع ارتياد الأطفال والفتيات المدرسة، بدأ رانجيتسين بتحويل الترفيه إلى تعليم، وتدريب الطلاب على صنع مقاطع فيديو واستخدام “باور بوينت” أو “يوتيوب” للعرض.
ولربط الآباء بالتعليم، بدأ بإرسال مقاطع الفيديو هذه إلى هواتفهم أيضا، ووضع منبها يرنّ في الساعة السابعة مساء: “مع إطلاق المنبه، ينطفئ التلفاز وهذه إشارة للآباء لترك كل ما في أيديهم ومساعدة الأطفال في الدراسة وفي الواجب المنزلي”.
الاستعداد للجائحة
من أجل توفير التعليم من خلال التكنولوجيا عمل رانجيتسين لأن يكون لكل أسرة هاتف واحد على الأقل. ولضمان ذلك، حصل على تمويل من العديد من شركات القطاع الخاص عبر “صندوق المسؤولية الاجتماعية”.
وعام 2020، عندما تعطّلت الدراسة في كثير من الأماكن حول العالم بسبب جائحة كـوفيد-19، لم يكن لذلك تأثير كبير على أطفال القرية، وخاصة الفتيات، وكان بإمكانهم متابعة تعليمهم بسهولة من خلال الهواتف. “كنا مستعدين لذلك”.
وأنشأ ديسيل رموز استجابة سريعة “كيو آر كود” QR CODE مخصصة للكتب المدرسية عبر منح الطلاب إمكانية الوصول إلى التسجيلات والقصائد الصوتية ومحادثات الفيديو والقصص وهم في المنزل.
جائزة المعلم العالمية
في كانون الأول/ديسمبر 2020، منحت مؤسسة فيركي البريطانية ومنظمة الأمم المتحدة للعلم والتربية والثقافة (اليونسكو) رانجيتسين ديسيل “جائزة المعلم العالمية”، وكان اسمه من بين 12 ألف مرشح من 140 دولة. وقال: “عانقتُ والدتي على الفور، لقد كانت لحظة لا تُنسى في حياتي”.
مدير اليونسكو في الهند، إيريك فولت، هنّأ المعلم على الحصول على الجائزة. وقال: “تأثر حوالي 63 مليون مدرّس حول العالم بسبب الجائحة. وفي مثل هذه الحالة، لدعم التعليم الشامل، نحتاج للاستثمار في المزيد من المعلمين أكثر من أي وقت مضى. المعلّمون هم القوة الأكثر فاعلية لتحقيق تعليم موحد وعالي الجودة وهم المفتاح لتحقيق أهـداف التنمية المستدامة”.
ومما يثير الاستغراب، أن رانجيتسين لم يكن يفكر مطلقا بأن يصبح معلّما. “كان لديّ حلم منذ الطفولة أن أصبح مهندسا لتكنولوجيا المعلومات. منذ طفولتي كنت مولعا جدا بالتكنولوجيا وكنت أواصل عمل ابتكارات صغيرة تتعلق بالتكنولوجيا”، لكنّ الحظ لم يحالفه في دراسة التكنولوجيا، وبناء على طلب من والده، التحق بمركز تدريب المعلمين ليصبح مدرّسا.
مليون دولار – أعطى نصفها لمنافسيه
حصل المعلم الشاب على مليون دولار من قيمة الجائزة، وقد أعلن تقاسم نصفها مع المتسابقين التسعة الآخرين المنافسين له الذين وصلوا إلى المرحلة النهائية في قائمة المرشحين. وقال: “يؤمن المعلمون بضرورة المشاركة مع بعضهم البعض، فهم يشاركون معارفهم ومهاراتهم ومعلوماتهم، فلماذا إذا لا نتشارك بأموال الجائزة؟”.
وأضاف أنه سيستخدم 20% من المال في مشروع يطلق عليه “لنعبر الحدود” يساعد في تدريس الأطفال في المناطق المتأثرة بالنزاع، ويوفر دروسا حول اللاعنف ويشجع على الحوار المتبادل. وسيتم استخدام 30% المتبقية لدعم المعلمين في مجال الابتكارات.
“سنستخدم أموال الجائزة من أجل رعاية أطفال بلدنا، حتى يتمكن كل العالم من الاستفادة منها. كل العالم هو فصلي الدراسي”.
يقول رانجيتسين إن العالم يحتاج إلى معلمين يفكرون بأسلوب القرن 21. لأن الطلاب هم طلاب القرن 21 لكنّ من يدرّسهم هم معلّمون من القرن العشرين، ويستخدمون منهجا يعود للقرن 19 وبتكنولوجيا ترجع إلى القرن 18.
“المستقبل في أيدي التكنولوجيا، لذلك سيتعيّن على المعلمين بذل أقصى الجهود لاستخدام التكنولوجيا في التعليم. عندها فقط يمكننا أن نصبح معلّمين للقرن الحادي والعشرين”.