وحدها الثَورات الحقيقية لا تشيخ، ووحدهم الثُوار الحقيقيون لا يَمُوتون؛ بل أحياء في مُدونات التاريخ يُلهِمُون، حَجزوا لأنفسهم مَساحات شاسعة في صفحات النضال، ورسموا بالبندقية والقلم مَلامح غدِنا المُشرق، واستوطنوا بأعمالهم المَائزة تفاصيل حياتنا والوجدان.
الثائر علي ناصر القردعي واحدٌ من هؤلاء، مَضى ببسالته المُستمدة من الأجداد، وصلابته المَقدودة من الصخر، وعزيمته الرافضة للقهر، مُدافعًا عن الكرامة، مُتمردًا على الإمامة، مُصوبًا رصاصته على رأسها الطاغية يحيى حميد الدين، مُحفزًا أقرانه على مُواصلة النضال، والبقاء على قيد ثورة.
ولد الشيخ القردعي في مأرب الحضارة، وتحديدًا في قرية «رحبة»، أصوله المذحجية المُرادية أورثته الإصرار والصلابة، وذاكرته الحية جَعلته لا ينسى ثأره، جَدع نمرٌ مُتوحش أنفه، فأرداه بجنبيته قتيلًا، وعاد إلى قبيلته مزهوًا بفعلته، حاملًا رأس المُعتدي الصريع فوق ساعده، صحيح أنَّ مَلامح وجهه تشوهت، إلا أنَّ مَلامح حياته صارت أكثر قوة ونضارة.
كغيره من الأحرار الصادقين، ناهض الثائر القردعي حُكم الإمامة المُهين، وكم تألم لحال الشعب المُستكين، وتبعثر بين ارتياب الاحتمالات، وجحيم المآلات، ودافع بمزيد من الصبر والانتظار عن هشاشة المُستحيل، وحين اجتاحته نوبات قاتمة من اليأس؛ قال مُتألمًا:
يا العافـيـة ودعـتش الله
والـموت حـيا به مـياتي
من حكم يحيى هو وقومه
قد موتي أفضل من حياتي
ليس من عادة الثائر الحقيقي أنْ يَستسلم لليأس، ولكنها لحظة يتيمة في مسار حياة ثائرنا، لها ما يبررها؛ خاصة وزوال حكم الإمامة كان حينها ضَربًا من المُحال، كان القردعي مُحبًا للحياة، مُصرًا على البقاء، داعيًا للثورة؛ بدليل أنَّه نجح بعد خمس سنوات من المُعاناة، وبعد مُحاولة فاشلة انكسرت فيها قدمه في الهرب من سجن «القلعة» المُوحش «1936م»، وما أنْ رأى جبال بلاده حتى راعه صُمودها، وخاطبها مُتحسرًا:
يا ذي الشوامخ ذي بديتي
ماشي على الشارد مَلامه
قولي ليحيى بن محمد
بـا نلتقي يـوم القيـامة
ولو شي معي سبعين رامي
لدخل ليحيى في مقامه
رغم أنَّه سُجن ظُلمًا، ورغم أنَّ سجانه أقسم أنَّه لن يُفرج عنه إلا إلى «خُزيمة»، ثمة تضارب نفسي صارخ عاشه الثائر القردعي؛ فهو لم يحب بتاتًا أنْ يُوصم بالهارب، وما استدراكه المُحفز لبني قومه للوقوف معه إلا لتلافي ذات الشعور المَرير، واليد الواحدة – كما قيل – لا تُصفق، ولا ثورة حقيقية إلا بثوار حقيقيين، وهو ما تحقق بعد مضي «12» عامًا، صحيح أنَّ تلك الثورة الدستورية لم يُكتب لها النجاح، إلا أنَّها هزَّت عرش الطغاة، ومَهدت لزوالهم.
التقت طموحات الثائر القردعي بأهداف الأحرار الدستوريين، واختير بعناية فائقة من قبل الأخيرين لتولي المُهمة الصعبة، ولكي يُشعل الصِراع بين الأفاعي الصغيرة، من تَدعي أحقيتها في الحكم والولاية؛ أصر بذكاء على أخذ فتوى من علماء «الزيدية» تجيز إسكاته لرأس الأفعى الكبيرة، وأنْ يسانده في مُهمته تلك أفرادٌ من غير قبيلته، وهو ما كان.
لم يكن الثائر القردعي بحاجة لتلك الفتوى، كيف لا؟ وهو من سُجن ظُلمًا، وتعرض أكثر من مرة للتآمر والخُذلان، كيف لا؟ والآلاف من بني وطنه قضوا نحبهم في مجاعاتٍ وحروبٍ عبثية، وهي تفاصيل مُؤلمة كان يدركها جيدًا؛ بدليل مُخاطبته لجثة الإمام الصريع:
هنت اليمن والقبايل كل فجاسي
عشنا النكد وانت لا ترثى ولا ترحم
وحط راسك براس المعدن القاسي
اسقيتنا المُر وانت اتجرع العلقم
سوا تذكرت وانك للخبر ناسي
من يَظلم الناس والله هكذا يُظلم.