«أصبحتُ أعاني نفسياً منذ أن لفظتْ ابنتي الوحيدة روحها بين أحضاني، بينما كنتُ أحاول إنقاذها قاصدًا مستشفى الثورة في تعز، لكن الموت كان أسرع».
بهذا الإيجاز يصف النازح سلمان قائد حالته وهو يسرد بمرارة ظروف موت طفلته «شروق» (13 عاماً) جرّاء إصابتها بطارئ مرضي باغتها في ليلة عاصفة اقتلعت الخيمة التي كانت تؤوي عائلتها في مخيم الظهرة (مديرية الشمايتين في تعز)، الذي كان ملاذًا لمن شرَّدتهم الحرب.
في ليلةٍ شاتية من شهر يناير سمِعَتْ عمّة «شروق» صيحات استغاثة من تلقاء خيمة أخيها (والد شروق)، وما رأته كان صادماً، تقول وهي تسترجع الواقعة: «سمعت صراخ شروق وأبيها وأمها وهم يستنجدون، وحين توجهت نحوهم أستطلع الأمر، وجدت الخيمة التي تسكنها شروق وأسرتها قد عصفت الريح بأوتادها وحملتها بعيداً، ما هي إلا لحظات حتى أصيبت شروق باختناق في التنفس، اضطرنا لنقلها إلى مستشفى «الأندلس» القريب من المخيم، إلا أن حالتها كانت حرجة، فتم تحويلها إلى مستشفى الثورة في مدينة تعز، لكن الموت أخذ روحها في الطريق قبل أن تصل».
وتضيف: «تبين لنا لاحقًا من الأطباء، أن سبب وفاتها الطارئ كان ناجمًا من نوبة الفزع التي تعرضت لها الطفلة في ليلتها تلك، الأمر الذي سبب لها مرضيَّ السكري والفشل الكلوي في ذات الآن، وهو ما جعلها فريسة سهلة للموت المفاجئ بهذا الشكل».
هذا المشهد أصبح يتكرر كثيراً في اليمن، وإن اختلفت الأسباب التي أسهمت- بشكلٍ أو بآخر- في زيادة معدل وفيات الأطفال إلى مستويات مقلقة ترافقًا مع جائحة حرب الحوثيين على الشعب اليمني التي تقترب من عامها الخامس، وما نجم عنها من تداعيات. وكانت منظمة «يونيسف» للطفولة حذَّرت في وقت سابق نهاية العام الماضي على لسان المدير الإقليمي للمنظمة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا «خيرت كابالاري»، من أن طفلاً يمنياً يموت كل 10 دقائق، واصفًا الوضع الذي آلت إليه الأوضاع في اليمن أنه صار «جحيمًا على الأطفال، ليس فقط لـ 50 – %60 من الأطفال، بل لكل طفل وطفلة في اليمن».
الموت على قارعة الحرب
شهدت السنوات الأخيرة زيادة لافتة في معدل وفيات الأطفال في اليمن بسبب استمرار الحرب وتداعياتها التي تركت ندوبًا عميقة في مجمل الجوانب في البلاد، وكان الأطفال أكثر الفئات التي تأثرت تأثراً مباشراً من الحرب الحوثية على اليمنيين.
وبحسب تقرير صدر مؤخرًا عن منظمة «أنقذوا الطفولة» تصدّرت محافظتا الحديدة وتعز القائمة في عدد الأطفال من ضحايا الحرب، وقال التقرير: إنه بين يناير وأكتوبر 2019م، قتل أو جُرح 33 طفلاً كل شهر في مدينة الحديدة الساحلية وتعز في الجنوب الغربي لليمن، ووفقًا لتقرير المنظمة فإن ما يقرب من نصف الأطفال الذين ماتوا كنتيجة مباشرة للحرب في اليمن، قتلوا في الحديدة وتعز.
إلى جانب عشرات الآلاف من الأطفال الذين تم تجنيدهم للانخراط في الحرب، كما هو الحال لدى مليشيا الحوثي التي يشكل ثلثي مقاتليها في مختلف الجبهات من الأطفال وصغار السن، في حين ما تزال حملات التجنيد والتحريض التي تقوم بها الجماعة في المدارس الأساسية ودور العبادة وجميع المنابر الإعلامية، فضلا عن دورات التعبئة الإلزامية والمراكز الصيفية، التي يتخرج منها شهرياً كتائب من المجندين الأطفال الذين يتم الزج بهم إلى محرقة الحرب، وغالباً ما يعودون أشلاءً في التوابيت.
ورصدت الشبكة اليمنية للحقوق والحريات بالتعاون مع 13 منظمة دولية، (خلال الفترة من 1 يناير 2015م وحتى 30 أغسطس 2019م) عدد الضحايا من الأطفال الذين قتلتهم مليشيا الحوثي بشكل مباشر، ووفقاً لتقريرها فإن المليشيا قتلت خلال هذه الفترة ما مجموعه 3 آلاف و888 طفلاً، وأصابت 5 آلاف و357 طفلاً، وتسببت بإعاقة 164 طفلا إعاقة دائمة جراء المقذوفات العشوائية على الأحياء السكنية المكتظة بالمدنيين.
الأوبئة تتفوق على الحرب
حتى الآن، لا توجد إحصائية رسمية دقيقة ومحدّثة عن إجمالي عدد وفيات الأطفال الذين قضوا خلال فترة الحرب في اليمن، سواءً بأسباب مباشرة للحرب أو غير مباشرة، ما خلا تقارير بعض المنظمات التي رصدت وفيات الأطفال المرتبطة بمسببات معينة كالملاريا وحمى الضنك والكوليرا وغيرها من الأوبئة.
مع التأكيد أن وفيات الأطفال الناجمة عن الأوبئة والأمراض وسوء التغذية، يفوق بأضعاف عدد الأطفال الذين قضوا من أسباب مباشرة للحرب، حيث تؤكد تقارير بعض المنظمات الدولية العاملة في اليمن أن معظم حالات الوفيات كان ناجمة عن أسباب صحية كان بالإمكان تداركها، مثل الكوليرا والملاريا وحمى والضنك والدفتيريا وسوء التغذية.
قصور الرعاية الصحية
في الوقت الذي تستفحل فيه المجاعة وأمراض سوء التغذية والانتشار الجنوني للأوبئة المعدية التي تحصد أرواح مئات الأطفال اليمنيين كل شهر، ما يزال هناك قصور كبير في الرعاية الصحية والمرافق والخدمات وتوفر الأدوية اللازمة إلا من القدر اليسير الذي تقدمه بعض المنظمات، خصوصًا في مخيمات النازحين التي تفتقر إلى أدنى أساسيات الرعاية الصحية جعل منها بيئات حاضنة لانتشار الأوبئة مثل الكوليرا والملاريا وحمى الضنك، ناهيك عن كونها عرضة للأمطار والبرد والعوامل الطبيعية، التي يكون الأطفال أشد الفئات تأثراً بها، وأقل مقدرة على مقاومتها أو التصالح معها.
يقول الدكتور نشوان عبدالحميد، مدير مستشفى الاندلس في تعز، في تصريح خاص: «هناك حالات أمراض أو إصابات خطيرة تأتينا من مخيم النازحين، تستدعي الإسراع في نقلها إلى المدينة، لعدم توفر الإمكانيات اللازمة لدينا، لكن المشكلة أن كثيراً من النازحين يتعذر عليهم نقل مريضهم إلى المدينة بسبب عدم توفر وسيلة النقل، حيث لا يوجد سيارات إسعاف خاصة تقوم بهذا الغرض».
مردفاً: «بعض المرضى يفارق الحياة في الطريق، كأن يتعرض المريض لنزيف حاد في الدماغ يؤدي بحياته بسبب عدم وجود سيارة مهيأة لإسعاف المريض. لذا لا بد من قيام المعنين بتدارك هذا التفريط وتوفير سيارات الإسعاف والطواقم الطبية المدربة للقيام بدور الإسعاف».
هذا القصور في مجال الرعاية الصحية يعد عاملاً لا يقل خطورة في زيادة نسبة وفيات الأطفال، علماً أن معظمهم يموتون من أمراض غير خطيرة، ويمكن علاجها أو الوقاية منها، حسب تعبير المدير الإقليمي لمنظمة «يونسف» خيرت كالاباري الذي قال: إن 30 ألف طفل يمني- دون الخامسة- يموتون كل عام من أمراض يمكن تفاديها.
الأغذية الفاسدة
يضاف إلى ذلك المعونات الغذائية الفاسدة، المقدمة من بعض المنظمات أو الجهات المانحة للمحتاجين رغم علمها من انتهاء صلاحيتها وعدم قابليتها للاستخدام الأدمي، كما كشفت عنه حالات كثيرة أصيبت بالتسمم وصلت في بعض الأحيان إلى الوفاة.
تقول إحدى نازحات مخيم الظهرة في تعز: «قبل أسبوع من الآن كاد طفلي أن يفارق الحياة بعد أن أطعمته لقيمات من غذاء (مخصص للأطفال) منتهي الصلاحية، وصلنا عن طريق المنظمة، دون علمنا أنه فاسد إلا بعد أن أصيب طفلي بتسمم كاد أن يودي بحياته.. حينها أبلغنا الوحدة التنفيذية، التي بعثت ممثلا عنها إلى المخيم، والذي بدوره أعطانا وعودًا بالنظر في الأمر ومعالجته، وطلب مني أن أحتفظ ببقية العينة ريثما يعود لاحقًا، لكن ذلك إلى الآن لم يحدث».
وتتساءل: ماذا لو مات ابني من جراء ذلك! من كان سيساعدنا أو يكترث لأمرنا، أو حتى يدفع لنا تعويضًا؟! نحن أميون لا نقرأ ولا نكتب، نأكل أي شيء قد يأتينا، كل التجاوزات تمر بلا حسيب ولا رقيب.. اتقوا الله فينا».