تداعيات كارثية وعلى كافة الصعد أفرزها استيلاء مليشيا الحوثي على الدولة ومقدراتها، فقد جعلت كل شيء حكرا عليها وتحت تصرفاتها وألغت جميع استحقاقات الموظفين، إلا من فتات تجود به مرة في السنة!
يترقب الموظفون هلال الفتات بفارغ الصبر، وحين يحل عليهم يوجعهم ألف مرة دون أدنى استفادة تذكر.
المليشيا وعلى الرغم من كونه فتاتا لا تأتي به مكتملا، بل تتخذ منه سبيلا لقهر الموظف وكبته، فالوجع والتنغيص والحرمان فنون تجيد المليشيا اتقانها.
قبل أيام حل على موظفي الدولة- الذين يقبعون في مناطق سيطرة الحوثيين- فتات سنوي وحيد بعد ترقب هلاله الذي لا يظهر إلا مرة في السنة.
حالة من القهر فجرتها ذكرى الفتات، فالمطالب كثيرة والمؤنة لا تكفي لأيام. يقول موظفون: لولا الحاجة والعوز لما ذهبنا لاستلام نصف راتب، في الأساس ماذا سنعمل به لن يلبي طلب الأسرة لأيام، ولن يفي بأدنى متطلبات البيت.
المليشيا التي ولدت في بيت الكراهية وتشبعت بالحقد ودأبت على الانتقام وانتهجت التكفير لا تجد الرحمة إلى قلبها سبيلا إلا مرة واحدة في السنة. يتعاطف الناس ويتراحمون فيما بينهم ويجودون على ضعيفهم بما يستطيعون، ويزداد تكافلهم وتراحمهم في الأوقات الصعبة.
حاولت المليشيا مجاراة ذاك التراحم وتفضلت على موظفي الدولة بنصف راتب، لكن هذه المرة كان لفتات الراتب حكاية أخرى وتفاصيل موجعة.
مراقبون يرون أن المليشيا ترى أن حرمان المدنيين من أبسط ضرورات العيش، أنجع ورقة في معادلة الصراع، ومضمار المكاسب السياسية، في أي تفاوض أو حوار، يراد منه وقف الحرب.
الموت أهون
بعينين مغرورقتين بالدمع وبصوت تعتليه حشرجة البكاء وتناهيد الوجع، يتكلم أحد الموظفين عن فتات الراتب، ولم يجد من الألفاظ ما يعبر به عن حالته سوى دعوة أرسلها لرب العالمين فهو ملاذه وملتجؤه: «الله لا وفقهم اللهم انتقم لنا من الحوثيين»، إلى من اشتكي وبمن ألوذ من هذا الظلم، ولا يسعني إلا أن أقول: «حسبنا الله ونعم الوكيل».
وأضاف: «نصف الراتب عمل لي مشاكل ما دريت لمن أعطيه وما أشتري به البيت مليان عيال والعمل ما فيش ، أنا في حالة لا يعلم بها إلا الله الموت أهون لنا من هذا العذاب».
مع هذه الحالة ترى ألفاظ المواساة غير مجدية، فالكلام لا يغني ولا يحل مشكلة. تشير التقارير الحكومية والدولية إلى أن 60% من إيرادات الدولة لاتزال تحت سيطرة الحوثيين، ومع ذلك يمتنعون من تسليم رواتب الموظفين في المناطق التي تحت سيطرتهم علاوة على ذلك إن قررت تعطي فستمنح نصف راتب تأخذ بعضه تحت بند الزكاة وتسرق البعض الآخر.
فتات مسروق
بنبرة مكلوم وأنين موجوع يتحدث موظف آخر عن فتات الراتب. يقول: «كنت قد جدولت متطلباتي وفصلتها على نصف الراتب، لكن ما حدث معي جعلني أكتوي بنار الأسى، والغبن، والقهر، كنت قد وعدت طفلي الصغير بكسوة بسيطة بقدر الحال بعد أن أقنعت بقية أطفالي ممن أدركوا -بعض الشيء- صعوبة الوضع، ويقدرون حالتي وسمحوا بكسوة أخيهم الصغير.. طفلي الذي يبلغ من العمر ما يقارب سبع سنوات عانقني أكثر من مرة، وقبلني بقبلات لا حصر لها، وعاش يومه أميراً، فهو من سيفوز بالكسوة دون إخوته، رافقني إلى خارج المنزل وهو يدعو لي وفي كل حين يغير رأيه حول لون الكوت الذي سآخذه له ولم يستقر على لون متنقلا بين طلباته وأذواقه، بينما أكتفى بقية الأولاد بالوعود إلى نصف الراتب القادم، جريت خطاي ووصلت البريد ووقعت على المبلغ وتجهزت لاستلامه فوجئت بخصم (8 آلاف) ريال تحت بند الزكاة، وما كدت أستفيق من وجعي على الثمانية الآلاف حتى نزل بي وجع آخر تمثل في إعطائي بقية نصف الراتب من فئة المائتين والخمسين مهترئة لا تقبل على الإطلاق».
تنهد كثيرا ثم صمت وغلبه البكاء ثم واصل حديثه: «حينها ضاقت بي الأرض وأظلمت علي وتذكرت وعودي لأبنائي، وكيف أني سأخيب ظنهم، وأعود إليهم بخيبات أمل ويد فارغة، تنحيت جانبا، وبدأت في فرز الورق المهترئة فكانت نصف ما تبقى لي من نصف الراتب ما يعني أن كوت طفلي لا أستطيع شراءه، شددت حيلي وعزمت أن أقصد محل الملابس في محاولة لأخذ كوت بالفلوس المهترئة، انتقيت كوتا وذهبت للمحاسب واتفقنا على الثمن وأعطيته الفلوس المهترئة، وما إن رآها حتى ضحك وزمجر في الوقت معا، وقال لي: بتضحك علي أو أيش، ادينا لك كوت جديد وماركة وتشتي تدي قيمته فلوس مقطع! معك فلوس مثل الناس وإلا الله معك».
وأضاف: «لم يتفهمني ولم يصغ إلي وقال ناصحاً: رجع الفلوس للذي إداها لك، فأخذت نصيحته وهرعت إلى البريد، وقلت لهم: هذه الفلوس منكم ما رضت تمشي غيروها. وفي موقف لا أزال أتذكره على الدوام أجاب علي: ما معك إلا هذه، فرميتها له وقلت: ما عليها لك. وقال لي: خذ الفلوس وانقلع من هنا قبل ما أهينك، يقول: «اكتفيت بكرامتي ثمناً وحافظت عليها، وأخذت الفلوس المهترئة كدليل يعتذر ويشفع لي عند الأبناء». يقول: «عدت أدراجي أحمل خيبات وندم، وأجر حملا كبيرا من الحرج من وعودي لأبنائي، ولك أن تتخيل موقفي من أبنائي وطفلي الصغير».
واختتم الموظف حديثه: «استطعت إقناع الأبناء الكبار وبقيت ضعيفا، وحائرا أمام طفلي الصغير الذي سكب عبراته أكثر من مرة، ولم أستطع إقناعه أبدا، لكنني صدقته وأخبرته بأن الحوثيين قد سرقوا كسوته وسرقوا من الشعب لقمته وفرحه وحياته وجميع حقوقه».
مرتباتنا صدقة
آلاف القصص والحكايا والمواجع نصف الراتب يخفيها جبروت الحوثيين وبطشهم واستبدادهم بالمواطنين تحت سيطرتهم، فالموت مصير محتوم لكل من يدلي بظلمهم ويحكي تفاصيل جرائمهم، ولا ينبس المظلوم ببنت شفاه إلا إذا ضمن عدم ذكر اسمه وأمن الجهة التي يحكي لها وتيقن بأن تحفظ سره وتكتم أمره.
يتحدث موظف آخر بلغة ساخطة وتعابير وجه عبوس يقول: «أصبحت مرتباتنا صدقة، ولم تعد ملكنا و ليست حقا من حقوقنا».
يسرد هو الآخر قصته مع البريد الذي استبدل النقود بنقود التجار المهترئة في صفقة أبرمها الحوثيون مع التجار الذين أصبحوا يتقاسمون أرباحهم بالقسر مع الحوثيين تحت مسمى المجهود الحربي.
يقول: «حين أعطاني الفلوس أحد موظفي البريد رفضتها بحجة أنها تالفة، لكنه قال لي: جرها مقطع و إلا انقلع». ويضيف: «أخذتها وأوكلت أمري للجبار فالله بيننا و بينهم. يقول حين وصلت البيت قالت لي أم أولادي بسخرية وامتعاض: «يا أهبل فين كان عيونك عندما صرفوا لك هذه الفلوس المشططة (التالفة)؟!. فقلت لها: والله إن عيوني معي بس قالوا: تجرها أو ما تجرها طز فيك قد بصمت. ففكرنا مليا في كيفية تصريفها والاستفادة منها، فاهتدت أم العيال إلى رأي فقالت: ما رأيك نشتري بها أي أغراض؟ فقلت لها: ما معي شيء رقبة مثل رقاب الحوثيين، هذا حرام وظلم».