ظلت عدن تحمل اليمن ، شماله وجنوبه ، وتعبر به الزمن بحلوه ومره ..
كانت المكان الذي لا يتأثر بما يفعله الزمن من تغيرات .. فهو الثابت في معادلة الحياة بالنسبة لليمنيين قاطبة ، وبذلك اكتسبت مكانتها في قلوب اليمنيين ، حيث أمها المتعبون من نكد الحياة بحثاً عن ملاذ يعيدون فيه صياغة حياتهم بأمان ، جاء إليها التجار والعمال والبناءون والسياسيون والشعراء والهاربون من الظلم ، وبسطوا خيمهم في الفراغات التي رسمت البسمة كعنوان كبير لأحلام هؤلاء المتعبين ، وكانوا أوفياء في الالتزام بقيمها : التسامح والتعايش والسلام .
ومنها ، وعبر موانئها ، غادر المهاجرون إلى عوالم مجهولة وفي سفن بلا هويات .
في حافة ” العونطة” التي تقع مابين حافة حسين والطويلة ، والمحاذية لمجرى الماء الذي يتدفق من صهاريج الطويلة عندما تفيض من جراء الأمطار ، كان الأهالي يتجمعون في المساء على صوت أنغام الطمبرة ( قيثارة أرضية ضخمة) التي يعزفها عم حسين البالو يغنون ويرددون أهازيج البحر والبر ورقصات الليوه والشرح والبرع والركلة .. ومن بين الحاضرين كانت الحجة “شمس” أم لاعب الكرة الشهير في نادي الحسيني عبد الله حرسي تحمل كيس فيه “النيكبات” القديمة حق إبنها توزعها على الفتيان من أبناء الحي ، فتخلق فيهم البهجة وكأن الواحد منهم يتسلم حذاء نوكيا جديد ، ومن العمارة المقابلة تأتي أنغام آلة “الجمد” الهندي مع صوت نسائي رخيم ” إلاما إلاما زماني إلاما صدوداً وهجراً وحزناًً ” .. ومن المقهى المجاور لنادي أبناء الاعبوس القريب من تجمع الطمبرة والمحاذي لمسجد العراقي يأتي صوت المباشر ” واحد قرص طاوة مع فنجان شاي سلالي ” .. تختلط الاصوات والموسيقى وتتداخل بعنفوان لتعكس وقع الأغنية ” عدن عدن فيها الهوى ملون …” .. ومن بعيد يضرب بحر صيرة الجو الحار بنسمات تحمل عبقاً خالداً يلتحم مع الاضاءات الخافتة التي تصدر من المصابيح الكهربائيه الملاصقة لبيت الشيباني ومسجد الدوابية ، ومن بعيد بيت حسن بن حسن أغبري وبيت شوالة وخليل محمد خليل ( الوردة الحمراء، وحرام عليك تقفل الشباك) ومعمل السندي للنجارة ومنازل حسن وحسين ومصطفى اسماعيل خدا بخش خان ، وعلى مسافة مكتب التاجر أحمد عبد الله العاقل ومبرز الفنان با مخرمة وعمارة با نوير وبيت شماخ ومقهى الحاج غانم ، ويبعث ذلك الإلتحام دفقاً من حيوية لا تتوقف عند بهجة اللحظة ، تذهب بالمشاعر بعيداً كلما ضربت أوتار “الطمبرة”بقوة لتمتص بصورة مذهلة كل الضجيج المحيط بها .. تستطيع الموسيقى أن تفرض إيقاعاتها على ما يحيط بها من ضجيج في الحالة التي يكون فيها العازف ملماً بقراءة مشاعر الناس ، وفي اللحظة التي يتعين عليه فيها أن يجعل الوتر نغمة يهتز لها الوجدان طرباً وترتقي به فوق منغصات الحياة .
في هذا المربع الصغير من مدينة كريتر ، أقدم أحياء عدن ، يلتقي هذا الكم من الناس من مختلف الأجناس والأعراق لا يفرقهم إلا طابور “المخلقة” الذي فرضه نظام الاحتلال ، أما في حياتهم اليومية فهم جسد واحد يتشكل بمعايير ومقاييس وقيم يصنعها الناس فيما بينهم ويتناوبون حمايتها بالعلاقات الانسانية ومشاعر الحب والتسامح والتعاون .
كان هذا المشهد يتكرر في كل زاوية وفي كل مربع من مدينة عدن بأحيائها المختلفة وعلى نحو يعكس مدنية عدن التي أخذت ، رغم قساوة الأنظمة الاستعمارية ، تصيغ نظاماً للمواطنة كان له اليد الطولى في حماية حقوق سكان مدينة عدن ، وأخذ يتشكل كميراث للحركة الوطنية لا يمكن التخلي عنه تحت أي ظرف باعتباره القوة المحركة لعدالة القضية الجنوبية وقوة محتواها ومضمونها .