خلال لقاءاتي في بروكسل في بداية شهر فبراير الماضي على هامش الاجتماعات التحضيرية الوزارية للقمة العربية-الأوروبية والتي التأمت مؤخرا بنجاح في شرم الشيخ المصرية، أفصح العديد من الوزراء الأوروبيين الذين التقيت بهم بأن إيران لعبت دورًا لإنجاح مشاورات السلام في اليمن، وأنها وجهت الحوثيين للقبول بالاتفاقات التي تم التوصل إليها مع وفد الحكومة اليمنية في 13 ديسمبر 2018م، وكان ردي المباشر أنه إذا ما كان الأمر كذلك فلم لم توجههم إيران، الدولة الراعية للميليشيات الحوثية في اليمن، للقيام بتنفيذ تلك الاتفاقات؟! فكان الرد أن تغييرًا في موازين القوى في المنطقة والضغوطات التي شكلتها العقوبات الأمريكية على إيران أفضت إلى دفع نظام الملالي لعدم التعاون في الملف اليمني.
إن مجرد إقرار النظام الإيراني بأنه من يحرك المليشيات الحوثية يؤكد الدور المزعزع للأمن والاستقرار في المنطقة والذي تقوده إيران وميليشيات حزب الله. وفي حقيقة الأمر فإن إحجام الحوثيين عن تنفيذ اتفاقات السويد وتعنتهم يؤكد التزامهم بتكتيكات التفاوض الإيرانية التي تبدأ بالموافقة الضمنية على مجمل الحلول التفاوضية ثم التراجع عنها جملة وتفصيلًا، لانتزاع مزيد من التنازلات من المجتمع الدولي وفرض واقع على الحكومة اليمنية وتحالف دعم الشرعية للسير في طريق الحرب الذي وفق رؤيتهم يشكل النصر لمشروعهم، لأنه في كل يوم تستمر فيه هذه الحرب العبثية يخرج فيه مجرمو الحرب الحوثيون من جحورهم ليقولوا للعالم: أنهم يهزمون أمريكا واسرائيل والسعودية والإمارات والسودان والمرتزقة من كولومبيا و من كل بقاع العالم، ويستخدمون فكرة المظلومية لزج الإنسان اليمني في مطحنة المأساة الإنسانية، ويقولون للعالم: انظروا ماذا تصنع الدول الغنية بدولة فقيرة مثل اليمن. وكأن العالم لا يدرك أن هذه المليشيا المدعومة من إيران هي من انقضت على اليمن وسرقت أحلام اليمنيين وأشعلتها حربًا في كل مكان لفرض أجندة إيران في اليمن كما فرضتها في أماكن أخرى في منطقة الشرق الأوسط.
ولم يكن مداد اتفاق السويد قد جف، وقبل الشروع في التنفيذ، ظهرت بعض الأصوات النشاز من الدول التي كانت معنا في السويد ويفترض بها أنها دولة راعية وأنها كانت حاضرة أثناء صياغة الاتفاق وأنها أكدت على أهمية خروج الحوثيين من الحديدة وعودة مؤسسات الدولة القانونية إليها وإلى موانئها، بدأت هذه الدولة بترويج فكرة أن بنود الاتفاق كانت ضبابية وهي حمالة لتفسيرات مختلفة! وأمام هذا وضع لم يكن بوسعي سوى التأكيد على الأجندات الخفية التي تحرك الدول في الملف اليمني والتي تبتغي مصالح لدولها، ضاربة عرض الحائط بمعاناة ومأساة أبناء اليمن الذين خرجوا دفاعًا عن وطنهم قبل أن تلتهمه إيران التي تشدقت بأن العاصمة العربية الرابعة باتت تحت قبضتها.
ومن منطلق حرصنا في الحكومة اليمنية على اجلاء الحقيقة فيما جرى ويجري حول اتفاقات استوكهولم، دعونا نقلب معًا مفهوم الامم لمتحدة وأمينها العام والقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة لجوهر اتفاق الحديدة ضمن اتفاقات السويد فقد قمت بتاريخ ٢٧ ديسمبر ٢٠١٨م بتوجيه من فخامة الرئيس، بإرسال مذكرة قانونية الى السيد الامين العام للأمم المتحدة تتضمن قراءة القانون الدولي للاتفاق. مفهوم المسارات القانونية للسلطة بما في ذلك مسالة الأمن وإدارة الموانئ والإيرادات وفرع البنك المركزي. لقد أكد السيد الأمين العام لفخامة الرئيس عبدربه منصور هادي في الساعات الأولى من صباح يوم 13 ديسمبر 2018 أن الهدف في النهاية لهذا الاتفاق يتلخص في انسحاب الحوثيين والقوات الحكومية من موانئ الحديدة والصليف ورأس عيسى ومدينة الحديدة وعودة سلطات الدولة الدستورية، ضمن جدول زمني وخارطة انتشار عسكري ارفقتا بالاتفاق.
ولما كانت المليشيا الحوثية هي وحدها المتواجدة في موانئ الحديدة الثلاثة المذكورة، فقد خصص الاتفاق أربعة أيام لانسحابها منها تحت إشراف لجنة تنسيق إعادة الانتشار التي أنشئت بقرار مجلس الأمن رقم 2451، وهي لجنة مكونة من الأمم المتحدة والحكومة اليمنية والمليشيا الحوثية، وقد فوضها القرار حق التدقيق والمتابعة لتنفيذ اتفاق الحديدة. ومع هذا فقد شهد العالم المسرحية التي انتجها الحوثي في ميناء الحديدة بعد أسبوعين من دخول الاتفاق حيز النفاذ، ليقوم بالانسحاب الصوّري ويسلم عناصره ادارة الميناء. ولما كشف الجنرال كاميرت الأمر أُعتبر بنظر الحوثيين شخصًا غير مرغوب به وفقد تدريجيًا وظيفته وما كان من الأمم المتحدة إلّا البحث عن مخرج يليق بالمنظمة الدولية حينما قالت: بأن عقد الجنرال كميرت كان قصيرًا للغاية!
واستمرت الحكومة اليمنية بالتعاون مع مكتب المبعوث الخاص المفوض بقرار مجلس الأمن بالإشراف على عملية تنفيذ اتفاق الحديدة وبالتالي الإشراف على لجنة تنسيق اعادة الانتشار RCC وبعثة الأمم المتحدة لتنفيذ اتفاق الحديدة UNMHA. وفي 9 يناير 2019م وافقت الحكومة اليمنية على تمديد مهلة تنفيذ اتفاق الحديدة والذي كان من المفترض الانتهاء منه مع نهاية ديسمبر 2018م، وقدم فخامة الأخ الرئيس عرضًا للمبعوث الدولي في اجتماعه معه يوم 7 يناير حول ضرورة تقديم خارطة طريق مزمنة لاتفاق الحديدة وفق بنودها الأصلية حتى يتم التضييق على المليشيا للتنفيذ. وخلال الاجتماع أبرز فخامة الأخ الرئيس أن سلوكيات المليشيا الحوثية على الأرض في الحديدة لا تعكس من يتطلع إلى بناء الثقة ووقف الحرب مؤكًدا على استمرار الميلشيات بزرع الألغام وحفر الخنادق وجلب المزيد من التعزيزات المليشياوية إلى الحديدة.
وبعد مرور شهر دون تنفيذ الاتفاق وافقت الحكومة اليمنية في 26 يناير 2019م على تقدم البنود الإنسانية لاتفاق الحديدة على بنود إعادة الانتشار، بناء على طلب المبعوث الخاص، وإبراز برنامج الغذاء العالمي الحاجة للوصول إلى مطاحن البحر الأحمر حيث تخزن كمية كبيرة من القمح تساوي ٥١ طناً متري من القمح أي 10% من كامل ميزانية البرنامج في اليمن للعام 2018، أي ما يكفي لتغذية 3.7 مليون نسمة طوال شهر كامل. وكانت المطاحن قد تعرضت لقصف بقذائف الهاون من قبل المليشيا الحوثية وبتأكيدات محايدة من الأمم المتحدة، مما أدى إلى إحراق كمية من القمح المخزن، كما أن تقرير اللجنة التي زارت المنشأة أكد بأن مخزون القمح يحتاج إلى نقل بصورة عاجلة قبل أن يتعفن ويفقد صلاحيته للاستخدام الآدمي.
وكبادرة حسن نية قامت الحكومة اليمنية بإبلاغ برنامج الغذاء العالمي في 26 فبراير 2019م باستعدادها للتعاون لإخراج كميات القمح عبر الطرق الآمنة في المناطق المحررة تحت سيطرة الجيش الوطني لنقل الكميات وتوزيعها بحسب خطط البرنامج الإنسانية. وجاءت هذه المبادرة بعد فشل كلٍ من الجنرال كاميرت وتلاه الجنرال لوليسجارد في فتح ممر آمن عبر شارع الستين المعروف بشارع صنعاء لنقل المواد الإغاثية، بل قامت المليشيا الحوثية باستهداف حياة الجنرال كاميرت واتهمته بتهمة (الارتزاق). وفي محاولة لإنقاذ الاتفاق ورفع الذرائع والأعذار الحوثية وافقت الحكومة في 31 يناير على طلب الأمم المتحدة بتغيير رئيس لجنة تنسيق إعادة الانتشار والذي كانت له تصريحات قوية عقب مغادرة المنصب وجه فيها الاتهام للميلشيات الحوثية بعرقلة جهود تنفيذ اتفاق استوكهولم حول الحديدة.
وبالرغم من كل المواقف المرنة التي أبدتها الحكومة واستعداد الفريق الحكومي للمخاطرة بحياة أعضائه والذهاب لاجتماعات لجنة تنسيق اعادة الانتشار إلى مناطق سيطرة الانقلابيين وتعرضهم للاستهداف المباشر في أكثر من مناسبة وبشهادة الأمم المتحدة، ورفض الطرف الانقلابي المشاركة في الاجتماعات التي دعا لها رئيس اللجنة الجنرال لوليسجارد في مناطق سيطرة الجيش الوطني، انكب الوفد الحكومي مع الجنرال الذي قضى شهر فبراير في صياغة خطة بسيطة لمباشرة المرحلة الأولى من إعادة الانتشار في خروج واضح عن الصيغة التي تمخضت عن اتفاقات ستوكهولم والتي تلخصت في انسحاب المليشيا الحوثية من موانئ الصليف ورأس عيسى فيما تنسحب القوات الحكومية من مثلث الكيلو 8 الاستراتيجي، وقبلت الحكومة الانسحاب لما يقارب 4 كيلو مترات من منطقة حيوية في عمق المدينة، فيما يشكل انسحاب المليشيات من موانئ الصليف ورأس عيسى انسحابا ضمن مساحتهم العملياتية العسكرية.
وفي 10 مارس وبعد اجتماعات متكررة للمبعوث الخاص خلال (6) زيارات إلى صنعاء للقاء قيادة المليشيا لتي دأبت على إرسال التطمينات وتقديم الموافقات فيما تترك لمليشياتها في الحديدة رفض كل خطوة باتجاه تنفيذ الاتفاق. وفي ضوء اجتماع مهم عقده المبعوث مع نائب رئيس الجمهورية في 5 مارس 2019، قدمت الحكومة اليمنية رؤية لحل اشكاليات الأمن في المناطق التي سيتم الانسحاب منها ريثما يتم حسم الأمر في المرحلة الثانية، وتتلخص الفكرة التي تنطلق من صلب القرارين 2451 و 2452 في قيام لجنة مشتركة من الأطراف الثلاثة للرقابة على الانسحابات من موانئ الصليف ورأس عيسى ومثلث الكيلو 8، وبعد أن قام الجنرال لوليسجارد بإبلاغ الأطراف لمباشرة التنفيذ طلب الجانب الحوثي منحه مزيدًا من الوقت للتشاور ولم يأت الرد الحوثي إلا قبيل ساعتين من عقد جلسة مجلس الأمن المغلقة التي دعت لها المملكة المتحدة في 13 مارس 2019. فكان رد الحوثيين برفض المقترح الدولي والتهديد بتنفيذ الانسحاب من طرف واحد في تكرار لمسرحية ميناء الحديدة في 29 ديسمبر 2018، وهي التسمية التي أطلقها الجنرال كامرت على مهزلة الانسحاب الحوثي.
لقد أوقفت المليشيا الحوثية جهود الجنرال كاميرت وافشلت خطته لإطلاق قافلة انسانية، ثم رفضت خطته لإعادة الانتشار، ثم افشلت خطة لوليسجارد للوصول الى المطاحن ثم رفضت خطته لاعادة الانتشار، وفي كل هذه الخطوات كانت توافق وتستهلك الوقت ثم ترفض في الأخير دون اي اعتبار للجهود الدولية ولا بمعاناة الشعب ولا بضحايا الحروب التي تختلقها مع كل فرصة للسلام، وبدلا من استغلال الحديدة كفرصة للسلام ذهبت لخلق مأساة جديدة في حجور التي عزلتها عن العالم وتمارس فيها ابشع أنواع الجرائم والقمع والارهاب.
والآن ماذا بعد؟! هل سيكون بمقدور السيد مارتن غريفيثس والجنرال لوليسغارد تنفيذ أي خطوة في اتفاق الحديدة في الوقت الذي يرفض الحوثي فكرة الانسحاب التي يرتكز عليها اتفاق الحديدة، بل ويرتكز عليها مفهوم قرار مجلس الأمن رقم 2216، والذي يؤكد على ضرورة انسحاب المليشيا الحوثية وتسليم الأسلحة؟. وأمام هذا تعنت ورفض من الطرف الحوثي، ماذا بقي لفرص السلام في اليمن بعد أن جرب المبعوث الخاص الخوض في تجربة الخطوات الصغيرة لبناء الثقة والتي فشلت بسبب تصلب موقف الحوثيين ومن ورائهم إيران؟!
وقد كانت تجربة الحل الشامل قد فشلت سابقًا في الكويت بعد أكثر من مائة يوم من المشاورات التي انجزت الشق الأمني من الاتفاق الشامل ووقعت عليه الحكومة اليمنية فيما هرب الطرف الحوثي من طاولة المشاورات عائدًا إلى إشعال مزيد من الحرب والتدمير لمقدرات الشعب اليمني. فهل الأفكار التي عرضت مؤخرًا للقفز إلى الحلول النهائية ستجدي نفعًا مع طرف حوثي مغامر لا يعرف القانون الدولي ولا يعي أهمية احترام التعهدات والاتفاقات؟!
إن سؤال السلام معقد في بلادي؛ لأن الدولة اليمنية المخطوفة مرهونة بقرار من طهران، ولأننا في الحكومة اليمنية قلناها علانية: أن خيارات الحرب لن توصلنا إلى الحل السلمي المستدام للأزمة اليمنية، ولأننا آمنّا بأن لا حل عسكريا لأزمة اليمن وأننا لا نقبل بخيارات الفشل في تنفيذ اتفاقات استوكهولم، ولأن فخامة الأخ الرئيس/ عبدربه منصور هادي أكد مرارًا على مسامع كل من تباحث معه مؤخرًا بان تنفيذ اتفاق الحديدة سيفتح الأبواب مشرعة للسلام المستدام في اليمن وسيكون له أثر أحجار الدومينو على مجمل العملية السياسية، ولكن الأمل في الإشكال اليمني هو أن تقبل المليشيا الحوثية بمبدأ وضع السلاح وعودة الدولة وانهاء الانقلاب، والجلوس مع باقي اليمنيين لصياغة مستقبل لكل أبناء اليمن في ضوء مخرجات الحوار الوطني لبناء دولة ديموقراطية اتحادية لكل اليمنيين تفتح مجالات أرحب للحوار والبحث عن أفضل الخيارات للعيش المشترك.
فهل تقبل إيران بذلك؟! وهل تقبل ميليشيات حزب الله؟! وهل تقبل المليشيا الحوثية عروض السلام وفرص السلام وتنحاز للخيارات الوطنية وترفض الاملاءات الخارجية وتفكر بمستقبل اليمن بعيدًا عن التوسعية المقيتة التي لن يكتب لها النصر ما كان في اليماني قطرة دم ونَفَسُ كبرياء وأصالة عربية هي من جزيرة العرب وإليها؟.
* وزير الخارجية