4:00 صباحًا - 27 أبريل, 2024

96 ساعة مع أحمد زويل

مع رحيل العالم المصري العربي الحائز على جائزة نوبل في الكيمياء الدكتور أحمد زويل، استعدت تلك السطور التي كتبتها عنه عندما حل ضيفا على منتدى الإعلام العربي في دبي.

أنا على يقينٍ بأن العالم الدكتور أحمد زويل الحائز على جائز نوبل في الكيمياء يختلف عن غيره من العلماء. حيث أن رائحة الأمل تفوح منه، و ينشر بسحرٍ غريبٍ طاقةً إيجابية لمن هم حوله؛ تدعو إلى التفاؤل بالخير وتحث على الاجتهاد، وتجعلك تؤمن بأن الفرصة هناك. وأن نوراً في آخر الدرب بانتظارك…

كما تمنحك شعوراً غريباً بعد عشرةٍ وجيزةٍ معه بأنك ترغب في أن تضمه إلى صدرك كأبٍ أو عمٍ أو خالٍ قريب إلى القلب.

كنت الشخص الأوفر حظاً بين رواد الدورة التاسعة لمنتدى الإعلام العربي؛ عندما كلفتني إدارة نادي دبي للصحافة مرافقا إعلامياً للدكتور أحمد زويل منذ وصوله إلى حين مغادرته دبي، حيث حل متحدثاً رئيسياً لمنتدى الإعلام العربي بحضور الإعلاميين من شتى أرجاء الوطن العربي والعالم، واستمرت المرافقة نحو 96 ساعة لم ينم خلالها ضيفنا الجليل أكثر من 20 ساعة، ونمت أنا خلالها نحو 16 ساعة لم أشعر خلالها بالتعب بقدر ما شعرت بالسعادة وأنا أركض خلفه أتابع خطواته السريعة والواثقة.

خرجت من هذه المهمة الشيقة، معتقداً – وأنا الأصغر سناً والأقل خبرةً – بأن هذا الرجل لا يشبه أحداً من علماء العرب والمسلمين وإن كانوا جميعاً قد غيروا مسار البشرية باكتشافاتهم العلمية وحددوا ملامح مستقبل العصور التي واكبتهم والأزمنة التي تبعتهم ولعبوا دوراً ُشبه في العديد من المواضع بدور الرُسل والأنبياء.

لم ألتق عالمنا الكبير في مختبر أو مركز أبحاث، بل سنحت لي الفرصة بالتعرف على جوانبه كإنسان، وكان حجم سعادتي كبيراً فكأنما عشت وقائع فيلم علمي وثائقي تعليمي متقن أو قفزت إلى داخل كتاب يسجل إنجازات عظماء علماء العرب؛ فأنا اسمع عنه منذ الصغر ولم أتصور يوماً أن أتحدث إليه أو حتى أن يعرف اسمي! في تعقيدات علم الوراثة ما زالت الأسئلة تطرح ما إذا كانت الأذن الموسيقية تورث أم لا؟

ولا أعرف إن كان زويل قد ورث شيئا عن عالمٍ آخر في حياة سابقة، وما إذا كان هناك شكلاً أو سمةً تجمع بين العلماء! لم أقوى على منع ذهني من الشرود مفكرا كيف كان صوت جابر بن حيان، ومشية أبو بكر الخوارزمي، وقامة أبو حنيفة الدينوري، وضحكة يعقوب الكندي، ونظرة أبو معشر الفلكي، ولون بشرة أبو بكر الرازي وملامح ابن سينا وابن الهيثم وغيرهم…

لم أتمكن من السيطرة على أفكار مجنونة دارت في رأسي وجعلتني أبدو متلعثماً لدى الإجابة على بعض أسئلته من سطوة حضوره. لم تكن هيبته فكرة زرعتها برأسي بل كانت حقيقة رأيتها وشعرت بها وسمعتها في موسيقى ووقع صوته وكلامه؛ غاية في التألق وقمة في التواضع، كل كلمةٍ تفوّه بها أو موقفاً علق عليه من ما سمع أو شاهد أو رأى….

لازلت أذكر خلال مراسلتنا مع مكتبه الورقة التي استلمتها من زميلي في النادي مصححة بقلم زويل! صدمت حينها لأنني كنت أظن أننا نتعامل مع دوائر وطوابير من مساعديه، ولأفاجأ بأن الرجل يعمل بيده وبنفسه على رأس كل التفاصيل! ولأتعلم درساً مجانياً في الحياة بأن التواضع والاجتهاد والمثابرة هي قواعد مصنع العظماء، وإن استمرار النجاح مربوط بك قبل وبعد أن يلعب الحظ دوره.

لا أتحدث فقط عن كلمته العلنية أمام منتدى الإعلام  الذي تكدس بالحضور، ما يظهر حجم تعطش الجمهور العربي للأمل، وكأن على رؤوس حضور القاعة الطير، ينصتون بعناية فائقة لكل كلمة أو حركة قام بها على المنصة الرئيسية. وإنما أتحدث عن ما دار في الكواليس حيث سُمح لي أن أستمع وأتعلم…

عندما قال زويل أن حجم الحضور مؤشرٌ واعدٌ على أن أمتنا بخير، فلم يأت الحشد الضخم ليشارك في حفل غنائي أو سهرة فنية، بل جاء ليستمع لكلمة عالم يرغب بمخاطبة أبناء جلدته! وهذا ما دعا إليه أيضاً عندما حذر من مخاطر اليأس على جيل الشباب وأهمية الشغف والتحلي بالأيمان إزاء أي مهنة أو عمل نقوم به، والتي قال إنهما سببان كفيلان للإبداع والتميز..

إلى جانب أهمية الاستثمار في البحث العلمي ومنحه الأولوية في خطط العالم العربي لنحجز مكاناً حيوياً لنا على خارطة الأمم. كرر عالمنا إعجابه بدبي والإمارات وما آلت إليه من تطور وازدهارٍ كنموذجٍ عربي مشّرِفْ، وتحدث عن التطور الكبير الحاصل منذ آخر زيارة له قبل عشر سنوات إلى المدينة الحالمة، واستطرد أكثر من مرة حول سعادته وإعجابه بالأسئلة الدقيقة والعميقة لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم حول كلمته التي ألقاها في المنتدى. وتحدث عن أهمية الإنصات ودوره في التعلم والتفرد…

ومن بين كل جلسات المنتدى اختار أن يخصص وقتاً لحضور جلسة حول آداب الحوار وفضيلة الإنصات من خلال استعراض نموذج البرامج الحوارية التليفزيونية العربية. وشرح لنا أهمية ارتباط الرؤية السياسية بخطط الأمم، وضرب مثالاً الإمارات وقادتها، ووجه بدبلوماسية شديدة وبعبقرية المحدث ولغة الجسد رسائل اهتز لها المنتدى حول ضرورة التوقف عن افتراض نظرية المؤامرة المسيطرة على عقول العرب، والانتهاء عن الانتقاص من النجاح وافتراض الشر لدى تميز فرد أو مؤسسة أو دولة، وضرب دبي نموذجاً، ودعا إلى أن نبحث في أسباب النجاح بدلاً من افتراض الأوهام واختلاق الأكاذيب والشائعات.

وسألني باهتمام عن الفريق ضاحي خلفان القائد العام لشرطة دبي، والذي التقاه أول مرة في حضرة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، معجباً بمستوى مطالعته وثقافته، وبدا أكثر سعادة عندما التقاه للمرة الثانية خلال اجتماعه بأبناء الجالية المصرية في الإمارات، حيث خاضا نقاشاً معمقاً وشيقاً حول تفاصيل كتاب “عصر العلم” للدكتور زويل.

ذكر أنه ما زال شغوفاً بالبحث عن الحقيقة، ورأيته يعمل  بمعدل 12إلى 14 ساعة في اليوم، ويروي تعبه بشرب الكثير من السوائل من القهوة والشاي والينسون والعصائر، ويقتنص بعناية الأشخاص المميزين ويطلب ترتيب لقاءات خاصة معهم، يحاورهم ويستمع إليهم وكـأنما يتعلم منهم، كان وقبل أن يذهب لنيل قسط من الراحة يبلغنا بخطته لاستثمار ساعات اليوم التالي، ورغم أننا أثقلنا عليه بجدول مزدحم إلا أنه أضاف عليه فقرات أثرته.

لم أشعر لحظة أنه يقطن في المهجر، فحجم انشغاله وحديثه ومعرفته عن مصر والوطن العربي لم يعط أي انطباع بأنه بعيد في الولايات المتحدة، خصوصاً عندما طرح وصفاً دقيقاً لحال العديد من شباب العالم العربي ممن استوردوا طبائع سطحية من الغرب ظهرت على ملابسهم وتصرفاتهم وهم بالكاد يتحدثون اللغة العربية، تظهر عليهم أقصى مظاهر “التمدن” ويملأهم اليأس من مجتمعاتهم ورغبة في الهجرة والانسلاخ عن أصولهم وعاداتهم وتقاليدهم بسبب ضعف أداء معاهد التعليم الخاص التي تأهلوا فيها…

أحسست بألمه حول ما آلت إليه أحوال بعض مناطق الوطن العربي، وبقلقه وشعوره بالمسؤولية تجاه شعبه وأبناء عروبته ودينه، وشعرت بمدى حبه للناس وبسعادته بتبادل المودة والاحترام معهم. كم أبدى عالمنا تفهماً وسعة صدرٍ لطلبات كل من قابله من الناس بالحديث معه ومصافحته أو لالتقاط صورة تذكارية، فقد لمست في كل مرة مدى قدرته العجيبة على الإنصات وحجم  تفاعله مع مشاعرهم وأحاديثهم ونقاشاتهم…متقد الذهن – ولا يلزم أن أذكر بذلك- فكان يحفظ بسرعة اسم مخاطبه ولو كان فرداً وسط المئات…ويخاطب بمهارة كل من قابله بلغة يفهمها مهما بدت من بساطة أو تعقيد مع اختلاف اللهجات واللغات.

ولو كان لي أن أضيف إلى نوبل التي فاز بها وبراءات اختراعاته وعشرات الجوائز وشهادات الدكتوراه والمناصب العلمية والأكاديمية، لقلت أنه استحق وبجدارة منقطعة النظير شهادة الدكتوراه في الإنسانية والعروبة والشهامة والأخلاق…

شكراً لدبي التي سمحت لنا بشرف لقائك وطوبي للبطن الذي حملك فخراً وذخراً للبشرية جمعاء، فلقد سعدنا بكل “فيمتو ثانية” قضيناها معك.

المزيد من الأخبار

مرحبا بعودتك!

سجل الدخول إلى حسابك أدناه

استرداد كلمة المرور

الرجاء إدخال اسم المستخدم أو عنوان البريد الإلكتروني لإعادة تعيين كلمة المرور.