عدن (رويترز) – على مدى حياة مهنية مستمرة منذ عشرين عاما، لم تشهد نهلة العريشي، وهي طبيبة أطفال في مستشفى الصداقة بمدينة عدن اليمنية، مرض الدفتيريا قط. ثم في أواخر الشهر الماضي استقبل المستشفى طفلة في الثالثة من عمرها مصابة بالحمى وجرى نقلها إلى عنبر الطبيبة.
كانت رقبة الطفلة منتفخة وتعاني صعوبة في التنفس . وبعد ثمانية أيام لفظت أنفاسها الأخيرة. بعدها بفترة قصيرة استقبل عنبر الطبيبة طفلا عمره عشرة أشهر وهو يعاني من أعراض مشابهة وبعد أقل من 24 ساعة على وصوله توفي هذا الطفل أيضا.
ثم استقبل العنبر بعد ذلك طفلين تربط بينهما صلة قرابة ويبلغان من العمر خمسة أعوام توفي أحدهما . كما لم يصمد صبي يبلغ من العمر 45 يوما سوى بضع ساعات. والتقط آخر أنفاسه عبر قناع أكسجين.
وفي صباح أحد الأيام في أوائل ديسمبر كانون الأول وصل سامح الذي يبلغ من العمر 16 شهرا إلى المستشفى بين يدى عمته وهو مصاب بالحمى. أدركت الطبيبة نهلة على الفور أن هذه حالة دفتيريا جديدة فأمرت العمة بسرعة بأن ترتدي قناعا.
دخل والد سامح وهو مقاتل في حرب اليمن المستمرة منذ ثلاثة أعوام مسرعا وأمسك بابنه ونزع عنه حذاءه الصغير وألقاه على الأرض وهو يولول ويتحسس جسد الصغير ”سامح هو نور الدار“.
ويبدو المكان مثل عنبر طوارئ للأمة بأكملها فبعد ثلاثة أعوام من الحرب وتفشي الكوليرا والمجاعة يواجه اليمن معركة جديدة. فقد سجل الأطباء في جميع أنحاء البلاد على مدى الشهور الأربعة الأخيرة ما لا يقل عن 380 حالة دفتيريا وهي مرض بكتيري كان آخر ظهور له في اليمن عام 1992.
ومثل بلادها تجد الطبيبة نهلة صعوبة في التعامل مع الوضع. وكل شهر تلجأ هي وزملاؤها إلى أسلوب التغذية بالتنقيط لإطعام عشرات من نحو نصف مليون طفل يمني يعانون من سوء التغذية. كما أشرف العنبر على علاج المئات من نحو مليون شخص أصيبوا بالكوليرا.
وخلال الربيع أعادت نهلة وزملاؤها فتح جناح مهجور من مستشفى الصداقة وأحاطوه بسياج وأقاموا مركزا بدائيا لعلاج الكوليرا. والآن يعكفون على تحويل جزء من هذا المركز إلى عنبر للدفتريا وطوقوا وحدات العزل بإغلاق أبواب الممرات.
ولكن في ظل وجود اسطوانات أكسجين يعلوها الصدأ وجهازين فقط صالحين للعمل من أجهزة التنفس الصناعي في قسم آخر بالمستشفى ومع توقعات بأن وباء الكوليرا سيتفشى بوتيرة أكبر خلال الأشهر المقبلة فإن أسلوبها في فرز المصابين لم يعد مجديا.
وتقول ”نستقبل مزيدا من المرضى لكننا لا نستطيع علاجهم. ليست لدينا معدات ولا أموال. لابد لهذه الحرب أن تنتهي“.
وخلال الأعوام الثلاثة الماضية تحول اليمن إلى ساحة القتال في المعركة على الهيمنة الإقليمية بين السعودية وإيران. وتدخلت الرياض وبعض من حلفائها العرب في الحرب الأهلية اليمنية في عام 2015 للمساعدة في قمع المسلحين من جماعة الحوثي المتحالفة مع إيران. وبالإضافة إلى الضربات الجوية نشرت الرياض، بدعم من الولايات المتحدة والأمم المتحدة، سفنا في المياه اليمنية كوسيلة لمنع وصول الأسلحة إلى الحوثيين.
لكن الحصار تسبب في عزل بلد كان يعتبر بالفعل الأفقر في الشرق الأوسط. ولا تمر إمدادات حيوية مثل الغذاء والأدوية والوقود والمعدات الطبية والبطاريات والألواح الشمسية وغيرها. وسمح بدخول معظم شحنات الأغذية والأدوية الإنسانية لكن القوات التي تقودها السعودية أخرت بشدة شحنات الإغاثة أو أغلقت الموانئ ولاسيما في شمال اليمن حيث بلغ القتال والأزمة الإنسانية أشدهما.
كما عرقلت الحرب والحصار برامج التطعيم في البلاد.
ويقول زاهر سحلول أخصائي الرعاية الحرجة الذي شارك في تأسيس منظمة غير ربحية تدعى ميدجلوبال إنه قبل سبعة أعوام كان 80 في المئة من الأطفال مطعمين بالكامل بثلاث جرعات للدفتيريا والسعال الديكي والتيتانوس. والآن يقول إن هذه النسبة تراجعت إلى 60 في المئة.
وأدى تدهور عملية حفظ السجلات وجود تضارب كبير في البيانات المتعلقة بنسب التطعيم. وتقول وزارة الصحة إن 85 في المئة من أطفال اليمن مطعمون ضد الدفتيريا والسعال الديكي والتيتانوس والتهاب الكبد ب والإنفلونزا البكتيرية منذ بداية الصراع أي تراجع بنسبة اثنين في المئة فقط من مستويات ما قبل الحرب.
وفي أواخر نوفمبر تشرين الثاني أرسلت منظمة الصحة العالمية شحنة من مضادات الدفتيريا لعلاج المصابين بالفعل بالإضافة إلى تطعيمات للعاصمة صنعاء. وقالت المنظمة إن التطعيمات تأخرت لمدة أسبوع بسبب الحصار السعودي.
وقال سحلول الذي كان يزور مركز العلاج بمستشفى الصداقة في ديسمبر كانون الأول ”يحتاج اليمن إلى خطة مارشال… من الصعب وضع سيناريو متفائل إذا استمر الوضع الراهن“.
* مرض بعد مرض
بدأت نهلة العريشي عملها كطبيبة في منتصف التسعينات بعد توحد اليمن في أعقاب سنوات من الصراع بين قوات شيوعية وأخرى مؤيدة للغرب. والتحقت بالعمل في مستشفى الصداقة الذي بني خلال الثمانينات بتمويل من الاتحاد السوفيتي.
وخلال الأعوام العشرين التي قضتها في عنبر الأطفال بالمستشفى شهدت الطبيبة اليمن وهو يتداعى مرة أخرى. حتى في منتصف الألفية الجديدة شهدت البلاد مجاعة على نطاق واسع بسبب ارتفاع أسعار المواد الغذائية. وتقول إن مركز التغذية بمستشفى الصداقة كان مكدسا حتى قبل أن تبدأ الحرب الأهلية الجديدة.
وفي ربيع 2015 تقدمت قوات الحوثي، بمساعدة الرئيس السابق الذي قتل أوائل هذا الشهر علي عبد الله صالح، جنوبا من معقلها في العاصمة صنعاء وسيطرت على مطار عدن. عندها انضم تحالف الدول العربية الذي تقوده السعودية إلى الحرب وبدأ يشن غارات جوية على الجيوب التي يسيطر عليها الحوثيون. واستعر القتال حتى استطاع جنود يدعمون الحكومة المعترف بها رسميا انتزاع عدن من براثن الحوثيين في يوليو تموز من ذلك العام.
وخلال الشهور الأولى من الحرب استقبل مستشفى الصداقة مئات المصابين من الأطفال والبالغين.
وبحلول منتصف 2016 بدأ المستشفى يستقبل نوعا آخر من المرضى. فقد بدأ وباء الكوليرا الذي ظهر في صنعاء الامتداد إلى عدن. وتقول الطبيبة نهلة إن عنبر الأطفال استقبل أطفالا مصابين بالجفاف زاد سوء التغذية حالتهم تدهورا. ولم ينج كثير منهم.
الكوليرا مرض قد يفضي إلى الموت لأن المرضى يفقدون سوائل الجسم بسرعة عن طريق القيء والإسهال. وإذا رصد المرض مبكرا فإن من الممكن علاجه عن طريق تقديم السوائل للمريض بدلا من التي يفقدها جسمه.
وعندما اجتاحت موجة ثانية من المرض اليمن في أبريل نيسان هذا العام قررت نهلة وزملاؤها إقامة مركز علاج جديد. واختاروا مبنى بعيدا عن الأجنحة الرئيسية في المستشفى لتفادي التلوث وأصلحوه بتمويل من منظمة الصحة العالمية ومنظمة أطباء بلا حدود التي قالت إن تحويل المبنى، الذي ظل مهجورا لمدة عامين بعد الحرب تطلب ”أعمال تنظيف كبيرة وإصلاح شبكات الكهرباء والمياه وتركيب أجهزة تكييف“.
لكن مستشفى الصداقة مثله مثل البلد بأكمله كان منشغلا بمواجهة وباء الكوليرا. وعلى المستوى العام أصيب مليون شخص بالمرض حسبما تقول اللجنة الدولية للصليب الأحمر. أما منظمة الصحة العالمية فتقول إن المرض أسفر عن وفاة 2200.
ورغم أن معظم المصابين كانوا في شمال البلاد المكتظ بالسكان فإن مستشفى الصداقة الذي استقبل مرضى من جميع أنحاء جنوب اليمن لم يكن مستعدا أيضا. وكانت نهلة وزملاؤها يتوقعون عشرة مرضى في اليوم. لكن بحلول الصيف كانوا يقدمون العلاج لأكثر من مئة معظمهم بالغون في اليوم.
ومنذ سبتمبر أيلول انحسر انتشار الكوليرا في البلاد لكن الأطباء يتفقون على أن من المرجح أن يتفشى المرض من جديد في مارس آذار مع عودة موسم الأمطار في البلاد. وتنتشر الكوليرا بسهولة في الطقس الرطب لأن البكتيريا تعيش في الأنهار والمياه الساحلية التي تفيض بسبب الأمطار. كما تحمل الأمطار مياه الصرف الصحي إلى مصادر مياه الشرب.
وفي أغسطس آب ظهر مرض جديد. ووفقا لمنظمة الصحة العالمية فقد تم تشخيص إصابة فتى يبلغ من العمر 17 عاما بالدفتيريا في محافظة إب على بعد 170 كيلومترا جنوبي صنعاء.
وتسبب الدفتيريا بكتيريا تصيب بشكل رئيسي الحلق والأنف والمسالك الهوائية وترسل سموما إلى مجرى الدم. وقد تراجع بشكل كبير خطره على المستوى العالمي لأن معظم سكان العالم يمتعون بالحماية من خلال التطعيم الروتيني.
ولكن الأطباء يقولون إن المرض يصبح شديد العدوى بمجرد أن يتوطن لأنه ينتشر من خلال رذاذ السعال والعطس. والأطفال أكثر عرضة للإصابة بالمرض من غيرهم لأن السموم التي ترسلها البكتيريا إلى مجرى الدم تكون غشاء من الأنسجة الميتة تسد مسالكهم الهوائية الصغيرة.
وتقول منظمة الصحة العالمية إنه منذ الحالة التي ظهرت في منتصف أغسطس آب أدخل أكثر من 380 مريضا مستشفيات في جميع أنحاء اليمن وقد ظهرت عليهم أعراض تشبه الدفتيريا. وشخص الأطباء الحالات استنادا فقط على الأعراض التي ظهرت على المرضى. وتقدر منظمة الصحة العالمية أن نحو 40 من المرضى وافتهم المنية. ووصلت أول حالة يشتبه بإصابتها بالدفتيريا إلى مستشفى الصداقة في نوفمبر تشرين الثاني. ومن بين سبعة أطفال وصلوا خلال أسبوعين تم تشخيص الكل تقريبا بشكل خاطئ بأنهم مصابون بالإنفلونزا أو التهاب الغدة النكافية. وتوفي أربعة منهم.
وواجهت نهلة مشكلة في عزل الأطفال الذين ظهرت عليهم أعراض الدفتيريا. وطلبت من إدارة المستشفى إغلاق باب مؤد لممر بلوح خشبي. وخلف هذا الباب حاولت أن تعزل هؤلاء الذين قد ينقلون العدوى لآخرين.
لكنها كانت تفتقر للموارد الأساسية لعلاج المرض الجديد. فمستشفى الصداقة مثله مثل مستشفيات أخرى في اليمن لا يملك التركيبات الدوائية اللازمة لمعرفة ما إذا كان الشخص مصابا بالدفتيريا. بل إن كل تشخصيات الطبيبة لم تؤكدها فحوص مختبرات.
وقال مارك بونسين وهو منسق إغاثة لدى منظمة أطباء بلا حدود في محافظة إب إن الافتقار لخبرة حديثة يعني أن علاج الدفتيريا قد يكون مهمة أصعب.
وأضافت ”هناك نقص في المعرفة بشأن علاجه لأنه أصبح مرضا مهملا ومنسيا نوعا ما.“
واستورد صندوق الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) ومنظمة الصحة العالمية أكثر من خمسة ملايين جرعة من اللقاح لتطعيم الأطفال في أكثر المناطق المنكوبة. ووزعت منظمة الصحة العالمية بالفعل المضادات الحيوية على المرضى وقدمت الوقاية لأسرهم.
ويحتاج بعض مرضى الدفتيريا لجراحة عاجلة لإزالة انسداد المسالك الهوائية أو قد يحتاجون لأدوات للتنفس. لكن معظم مستشفيات اليمن لا تملك هذه المعدات. وحتى أوائل ديسمبر كانون الأول لم يكن يعمل في مستشفى الصداقة سوى جهازين من ثلاثة أجهزة للتنفس الصناعي كما لا توجد في المستشفى غرفة عمليات معزولة لمرضى الدفتيريا.
ووضع نقص الموارد ضغوطا على داعمي المستشفى. وعندما طوقت الطبيبة نهلة جزءا من عنبر الكوليرا لاستقبال حالات الدفتيريا قبل أسبوعين لم تكن منظمة الصحة العالمية سعيدة بهذا القرار حسبما يقول حسين حسن مدير مكتب المنظمة في عدن.
وقال ”لا يمكننا القول بثقة إن الكوليرا انتهت. هذه مشكلة موسمية وربما تعاود الظهور. ما الذي سيحدث لو بدأت موجة أخرى وكان العنبر مليئا بمرضى الدفتيريا؟“.
* ”لم أكن أريد أن أفقد طفلي“
تقول نهلة إن هناك مؤشرا آخر على أن اليمن ينهار وهو تراجع ثقة الأهالي.
وتشهد الطبيبة كل يوم مزيدا من الأمثلة على أسر لم تطعم أطفالها بسبب عدم ثقتها في الحكومة أو المنظمات الدولية.
وفي وقت سابق هذا الشهر واجهت الطبيبة صالح خالد وهو أب لطفل عمره خمسة أعوام يدعى ياسر وصل المستشفى وهو يعاني من أعراض دفتيريا شديدة.
وسألته الطبيبة عن سبب عدم تطعميه لابنه. وكان أحد أقرباء ياسر يبلغ من العمر خمسة أعوام أيضا ولم يتلق تطعيما قد توفي قبلها بعدة أيام. وعندما ظهرت الأعراض الأولى على عنق ياسر وذقنه أعطاه والداه العسل.
وقال خالد إنه سمع شائعات قبل سنوات عن أطفال يموتون بعد أن بدل عاملون في مجال الرعاية الصحية قناني لقاح التطعيم بالأنسولين أثناء حملة التطعيم من الباب للباب.
وأضاف ”لم أكن أريد أن أفقد طفلي بسبب شيء كهذا… لا نثق بالأشخاص الذين يعملون في إدارة الصحة“.
وتحدث آخرون في عنبر مستشفى الصداقة عن مخاوف مماثلة.
وقال خالد ناصر والد الطفل سامح البالغ من العمر 16 شهرا ”نحن على قيد الحياة فقط بفضل رحمة الله“. وخالد هو عضو في جماعة محلية مسلحة تحارب إلى جانب القوات التي تقودها السعودية. وقال إن زملاءه من المقاتلين ساعدوه على شراء الدواء عندما أصيب سامح بالمرض.
وتجني الطبيبة نهلة بالكاد ما يكفيها للعيش. فهي تتقاضى 210 دولارات في الشهر عن عملها في مستشفى الصداقة كما تعمل في عيادة خاصة ثلاثة أيام في الأسبوع لزيادة دخلها. وتعالج الطبيبة وهي أم لثلاثة الجيران والأقارب دون مقابل. ويعمل زوجها وهو أيضا طبيب أطفال في عيادة أخرى بعدن.
وبالنسبة لها فإن الحرب هي مصدر عبء وإلهام في الوقت ذاته. وتقول إن الحرب زادت من قوة التزامها تجاه الطب.
وتقول ”إذا رحلت ورحل زوجي ورحل الجميع فمن سيبقى لعلاج مرضانا؟… عدن مدينتي وهذه مسؤوليتي“.