قالت الرواية الأولى إنّه مات قنصاً. الرواية قد لا تكون دقيقة، مع هذا، فعلي عبد الله صالح لا يموت إلاّ قنصاً. إنّه شكل الموت الذي يشبهه، ذاك أنّ الموت لا يتمكّن منه إلاّ بالقنص. في المرّة السابقة، مدّ الموت يده إليه، فشُلّت اليد في منتصف الطريق. أحدثت تشوّهات في الوجه عالجها الرئيس السابق في السعوديّة الحليفة،
فما إن تعافى حتّى صارت السعوديّة خصماً. هكذا كان صالح وهكذا عاش. منذ بداياته، كضابط جمهوريّ في الحرب الأهليّة الأولى عام ١٩٦٢، حالف الجميع وخاصم الجميع. حالف السعوديّة مراراً وخاصمها مراراً. حالف الحوثيّين وحاربهم غير مرّة. حالف الجنوبيّين وقاتلهم وتغلّب عليهم في حرب بشعة. حالف القبائل اليمنيّة وحاصرها. حالف إيران وعاداها. حالف صدّام حسين وناوأه. حالف القاعدة وكان يطعنها بأميركا. حالف أميركا وكان يطعنها بالقاعدة. فعلي عبد الله صالح ليس اسماً لشخص. إنّه اسم للتقلّب في السياسة. لانعدام المبدأ. للرهان على سلطة مركزيّة لا تُمركز إلاّ الفساد. للرقص مع الأفاعي، بحسب العبارة الجميلة التي قالها هو نفسه في وصف نفسه.
وصالح، وهو ما ينبغي قوله، رجل شجاع. مستبدّ وشجاع. فاسد وشجاع. عديم المبادىء وشجاع. يقاتل بيده ويموت وهو يقاتل. إذا قارنّاه بمعمّر القذّافي، الذي مات هارباً كالفأر ستكون المقارنة لصالحه حتماً. إذا قارنّاه بزين العابدين بن علي، الذي استسلم وفرّ قبل أن يبدأ الرصاص، كانت المقارنة أيضاً لصالحه. وكثيراً ما تكون المقارنة لصالحه إذا قارنّاه ببشّار الأسد. فهو كان جنديّاً ولم يرث الجنديّة، وكان انقلابيّاً ولم يرث النظام الانقلابيّ، وكان رئيساً ولم يرث الرئاسة. وهو، في الحساب الأخير، قاتل حتى قُتل. باهرٌ هو عبد الله صالح بقدر ما هو فاسد. يذهب في اللعب بعيداً، ويلاعب لاعبين ليسوا أقلّ مهارة منه ولا أقلّ تقلّباً. يتشاوف ويزهو كأعيان القرى إلى أن ينكسر فيطأطىء رأسه كعاطل عن العمل يبحث عمّن يشغّله، ثمّ يعاود التشاوف كأنّه يبدأ من المربّع الأوّل سيّداً متعجرفاً. لهذا يبدو موته كأنّه شرط من شروط اللعبة، أو طور من أطوارها، حتّى ليخال واحدنا أنّه يمثّل موته أكثر ممّا يموته، وأنّه يغشّنا بلعبة جديدة، لنسمّها لعبة موت، لم نعهدها قبلاً. معه، لا يوجد مسار ولا سياق ولا زمن، ولا – حتّى – موت. ولأنّ حروبه هي دائماً هكذا،
ولأنّ المحاربين فيها هم مثله، يبيعون ويشترون، ولا يفعلون إلاّ البيع والشراء، فإنّ الموت في تلك الحروب تبقى أشبه بالقنص، حتّى لو لم تكن قنصاً. لكنّ أكثر ما يؤلم في مقتل صالح، قنصاً كان أم إعداماً أم بأيّ طريقة أخرى، شيئان: أنّ الرجل الذي قامت الثورة في وجهه لم تتمكّن منه الثورة، بل قضى على يد الانقسام الأهليّ – الإقليميّ المُرّ في بلاده، وأنّ بلاده المعذّبة لن تغدو بعد موته أفضل ممّا كانت قبل موته. فصالح وسواه يصيران تفصيلاً بالقياس إلى ما آلت إليه حرب اليمن في داخلها وفي خارجها، فكأنّها حرب اليمن على اليمن، وحرب العالم على اليمن، وبمعنى ما، حرب اليمن على العالم. لقد لعب علي عبد الله صالح دوره الكبير في جعل بلده على هذه الهيئة، فردّت البلد التحيّة بأحسن منها إذ جعلت موته على هذه الهيئة.