لم يتردد الرئيس الأميركي دونالد ترمب عندما لخّص الركائز التي ستوجه سياسة إدارته تجاه الجمهورية الإسلامية الإيرانية. تحدث عن سلوك إيران العدواني الذي شكل تهديداً عبر الزمن، وأعلن أن الولايات المتحدة ستواجه أنشطة إيران المزعزعة للاستقرار في المنطقة؛ إلا أنه لم يذكر كيف ستفعل إدارته ذلك.
وتؤكد دراسة سريعة للأحداث ضرورة التصدي لما تقوم به إيران في المنطقة. فقد استقال سعد الحريري من منصب رئيس الوزراء اللبناني بسبب مخاوف من مؤامرة اغتيال تحاك ضده. وأثناء إعلانه لقراره، اتهم الحريري إيران بزرع «الفتنة والدمار والخراب في أي مكان تحل فيه». واتهمها أيضاً بالتدخل في «شؤون الدول العربية»، وأشار إلى أن «حزب الله» بات كدولة داخل الدولة في لبنان.
أما في اليمن، فيقوم الحوثيون بإطلاق الصواريخ بعيدة المدى – التي تزودهم بها إيران – على المدن السعودية، بما فيها الرياض. كما تقدم إيران للحوثيين صواريخ مضادة للسفن لتهديد مضيق باب المندب.
وفي العراق، سارع قاسم سليماني، قائد «فيلق القدس»، وهو الذراع العسكرية للحرس الثوري الإيراني، إلى الاستفادة من الصراع بين الحكومة المركزية وحكومة إقليم كردستان، مما دفع وحدات «الحشد الشعبي» التي يدعمها الإيرانيون إلى إجبار قوات البيشمركة على الانسحاب من كركوك حتى مع استمرار الأزمة.
ومن المؤكد أن الإيرانيين لا يبدأون هذه الصراعات، إلا أنهم يسارعون إلى استغلالها من خلال الاستعانة بوكلائهم من الميليشيات الشيعية حتى في باكستان وأفغانستان. وثبتت واقعية هذا الأمر في سوريا على وجه الخصوص. فلم يكتفِ الإيرانيون ووكلاؤهم بالمساعدة في حماية نظام الأسد، بل ما زالوا يحاولون ملء الفراغ الذي ستخلفه هزيمة تنظيم داعش؛ الهزيمة التي لم يكن لهم أي يد فيها.
وفي حين تركز الولايات المتحدة على هزيمة «داعش»، تقوم إيران بالتخطيط لما بعد هذه الهزيمة، وتعمل بنشاط على خلق حقائق على الأرض، بل وتعمل على تغيير الديموغرافيا عن طريق نقل الشيعة إلى المناطق ذات الأغلبية السنية.
إن انتشار إيران، خصوصاً مع «حزب الله»، يمتد إلى كل المناطق السورية. اذهب إلى هضبة الجولان، ويمكن لأي شخص أن يرى، كما رأيت بنفسي، قمة الهضبة، حيث أقام «فيلق القدس» و«حزب الله» مراكز مراقبة باتجاه إسرائيل. إنها مسألة وقت فقط، قبل أن توجه هذه القوات انتباهها إلى الحدود مع الأردن. فالإيرانيون هادفون تماماً في سوريا، ومع مرور الوقت ستتحكم إيران في الحدود السورية مع العراق والأردن ولبنان وإسرائيل.
هل سيقومون بذلك مع الحدود التركية السورية؟ إذا كان ذلك يعني التوصل إلى اتفاق مع تركيا لمنع إنشاء منطقة كردية مستقلة، فيمكن المراهنة على ذلك أيضاً.
لذلك، فإن إدارة ترمب لها الحق في التكلم عن «الأنشطة الخبيثة» التي تمارسها إيران. والمشكلة في هذه المرحلة هي أن السياسة تبدو قاسية في اللهجة والخطاب؛ لكنها تقتصر إلى حد كبير على الكلمات. والصحيح أن هناك تسميات متزايدة للعقوبات المفروضة على كيانات مرتبطة بالحرس الثوري و«حزب الله». وفي حين أن العقوبات هي بالتأكيد أداة للسياسة، فإن تطبيقها هو إلى حد كبير استمرارٌ لنهج أوباما. وكانت إدارة أوباما مستعدة بالطبع أيضاً للتحدث إلى الإيرانيين. وتهدف سياسة المشاركة لتلك الإدارة إلى كسب الدعم الدولي للضغط على إيران، وكذلك على أي اتفاقات قد تنشأ عن الدبلوماسية.
وأعرب الرئيس السابق أوباما عن أمله في أن الاتفاق النووي، أي خطة العمل الشاملة المشتركة، لن تحد فقط من البرنامج النووي الإيراني وتحول دون تطوره ليشمل الأسلحة النووية، بل تحسن أيضاً من حسن سلوك إيران.
ومن خلال إعادة دمج الإيرانيين في النظام المالي الدولي، فكرت إدارة أوباما في أن وزن ونفوذ البراغماتيين في القيادة الإيرانية سينمو، وأن الجمهورية الإسلامية ستطبّع تدريجياً مع جيرانها والعالم، على الأقل هذا ما كانت تأمل الإدارة حدوثه. وعلى المدى الطويل قد يحصل ذلك فعلياً، ولكن على المدى القصير، كان ذلك دائماً غير مرجح، حيث إن المرشد الأعلى علي خامنئي كان يريد أن يثبت أنه لم يتخل عن آيديولوجيته «المقاومة» من خلال السماح بإبرام خطة العمل الشاملة المشتركة. وبالفعل، ومن خلال الأعمال العدوانية التي يقوم بها نظامه في المنطقة يمكن لخامنئي أن يثبت أن الصفقة التي أبرمها مع الولايات المتحدة والأعضاء الآخرين من دول الـ«5+1» لا تعكس أي تخفيف في وجهة نظره العالمية، ونظام الاعتقاد الذي يدعم الجمهورية الإسلامية.
والتحدي من إيران لا لبس فيه. ويجب أن تكون السياسة عبارة عن رفع التكاليف على الإيرانيين. ولم تكن إدارة أوباما مخطئة حول وجود انقسامات في القيادة الإيرانية. وفي الواقع، يوجد براغماتيون حول روحاني يفضلون التطبيع مع العالم الخارجي، مثلما يسعى الشعب الإيراني إلى تحقيق اقتصاد حديث ومفتوح ومتنامٍ، بدلاً من الاقتصاد المقاوم الذي يدعو إليه خامنئي في كثيرٍ من الأحيان. وفي كل مرة يحصل الإيرانيون فيها على فرصة للتصويت، يفضل الإيرانيون التطبيع مع الخارج والتحرر في الداخل.
ما قامت به إدارة أوباما من خلال رفع التكاليف التي يتحملها الإيرانيون في حال متابعة برنامجهم النووي كان خياراً صحيحاً، حتى وإن تركت لهم وسيلة دبلوماسية للتملص منه.
ومثل كثيرين، أعتقد أن أوباما كان يستطيع المحافظة على القدرة التي جلبت الإيرانيين إلى طاولة المفاوضات بشكل أكثر فعالية خلال المحادثات، لتحقيق نتيجة أفضل؛ لكن إذا أرادت إدارة ترمب التعامل مع بعض العيوب في خطة العمل الشاملة المشتركة – نهاية القيود الرئيسية على التخصيب وإعادة المعالجة في 13 عاماً والاختبار الحالي للصواريخ الباليستية – فيجب أن تكون على يقين من أن لديها شركاء دوليين. وينطبق الأمر نفسه على التعامل مع سلوك إيران في المنطقة.
ومن المنطقي في هذه الحالة رفع التكاليف على الإيرانيين، مع ترك وسيلة لهم للخروج. ويبدأ ذلك بتطوير توافق دولي في الآراء، من خلال تسليط الأضواء على ما تقوم به إيران في كل مكان في المنطقة. فإيران لا ترتبط بالاستقرار بل بالتوسع. ويجب على الولايات المتحدة أن تقود، ليس بالكلمات؛ لكن بالتنفيذ.
وأعتقد أنه من الضروري احتواء إيران في سوريا، وعدم السماح للميليشيات الشيعية بالتوسع أكثر، لنظهر للنظام الإيراني أننا سنفرض حدوداً لأفعالهم. كل الأسباب تشير إلى ضرورة التحدث مباشرة مع الإيرانيين وإيضاح ما يمكننا وما لا يمكننا قبوله. ومن المؤكد أننا يجب أن نفعل الشيء نفسه مع الروس، ونقول لهم بوضوح إنه إذا استمر التوسع، سنستخدم قواتنا الجوية لوقف انتشار الميليشيات الشيعية.
وفي الوقت الحاضر، لا يزال هناك نقاش داخل حلقة إدارة ترمب حول كيفية مواجهة الإيرانيين. ويبدو أن البعض مستعد للتنازل عن سوريا لروسيا، والسماح لهم باحتواء الإيرانيين، في حين أن الولايات المتحدة تفعل أكثر من ذلك لمواجهة الإيرانيين في العراق.
ويتضح أنه توجد مشكلتان مع هذا النهج؛ أولاً، الروس لديهم حافز ضئيل للعب هذا الدور، خصوصاً مع استمرار التمرد على مستوى ضعيف في سوريا، وأقدام الميليشيات الشيعية ثابتة على تلك الأرض. وثانياً، قد تمتلك إيران نفوذاً أكبر في العراق مقارنة بنفوذنا.
وكلا النهجين يتطلبان من الإدارة التنفيذ بدلاً من إطلاق الكلمات والتهديد بفرض جزاءات، خصوصاً إذا كانت الجزاءات ستكون أحادية الجانب إلى حد كبير وليست متعددة الأطراف. وكما هو الحال، من غير المرجح أن يستطيع ترمب إقناع الأوروبيين بالتوافق معه وفرض العقوبات، ما لم يعالج مخاوفهم بشأن عدم إعادة التفاوض على خطة العمل الشاملة المشتركة، أو يوضح أن ثمن عدم إعادة التفاوض على خطة العمل الشاملة المشتركة هو الاستجابة الأوروبية للعقوبات المفروضة على أفعال إيران المزعزعة للاستقرار في المنطقة.
وحتى هذا قد لا يكون كافياً للضغط اللازم على الإيرانيين، إلا إذا كانت إدارة ترمب مستعدة لاستخدام القوة الجوية المصممة خصيصاً لرفع التكاليف على الإيرانيين والميليشيات الشيعية في سوريا، وإشراك الإيرانيين أيضاً. هل هي مستعدة للقيام بذلك؟ إذا لم تكن مستعدة، وإذا لم يكن الرئيس ترمب مستعداً لدعم الدبلوماسية بالإكراه، واحتواء الإيرانيين في سوريا أو العراق، فإن الفجوة بين سياسته المعلنة والواقع ستتسع أكثر.
*نقلاً عن صحيفة “الشرق الأوسط”