الأمر ليس مجرد معركة عسكرية محدودة، ولا حالة طيش عابرة، لمغامر يقود يمينا متطرفا. بل نحن أمام تحول قادم، يراد له تغيير واقع جغرافيا ساكنة إلى تاريخ متحرك. وقد انطلق السهم من القوس ولا ندرى أين يصل، ولكن كرة اللهب إذ نراها الآن تتدحرج، فهى لتحرق السهل كله، لا لتقف فى منتصف المنحدر. ولنرى المشهد بوضوح أكثر لنعود أياما ونرى تلك الصورة، فى جلسة الجمعية العامة للأمم المتحدة وإعلان حالة التوحش على الملأ.
فبكل صفاقة وإهانة للنظام الدولى وقف نيتانياهو أمام ممثلى العالم، يرفع خريطة جديدة يلغى بلدانا وينهى شعوبا، كان لا يزال منتشيا بتصفيق أعضاء الكونجرس الأمريكى له، حيث كان قبلها بأسابيع فى واشنطن يلقى خطاب الحرب فيقف الأعضاء مصفقين لضرب كل القيم، لم يكن بعد قد فقد نشوته تلك، حيث جاء إلى نيويورك، ولم يجد تصفيقا بل وجد شماتة دولية عكس ما وجد فى واشنطن، وإذا كان أعضاء الكونجرس الأمريكى قد وقفوا لتحيته بموقف يهين قيم الديمقراطية فى أمريكا قبل أى شيء آخر، فقد وقف ممثلو الدول فى اجتماع الأمم المتحدة ليتركوا القاعة احتجاجا على قاتل فى ذمته أكثر من أربعين ألف مدنى فى غزة وحدها جلهم أطفال ونساء. ولكن تلك أقصى ما تقدر عليه دول العالم التى ترى حالة التوحش الإسرائيلى فى فلسطين ولبنان ولا تصدق أن ذلك يحدث. فهم يقفون ليخرجوا غاضبين لا أكثر، وحتى مجرد قرار لم يعد ممكنا أو مجديا. لذا يبدو الأمر جليا فمسار المخطط أكبر من مجرد الإجهاز على حماس وإضعاف حزب الله.
حيث نرى هنا الحلم الصهيونى فى إعادة فك وتركيب دول المنطقة، والمجتمعات العربية. فمنذ أول القرن العشرين وهذا القرن لم ينته بمسلسسل أحزانه فى المنطقة العربية، بل هو موال وجع ممتد منذ الحرب العالمية الأولى وحتى اللحظة.
لست مولعا بالتاريخ إلا من حيث حضور شواهده كعبرة تلقى بظلالها على الحاضر. لنعيد التذكير ثانية ولو كانت إعادة مملة لكن تبقى ضروريه للتذكير لأمة شعارها النسيان، ذلك موقف اجتماع (سايكس ـ بيكو) وتقسيم الوطن العربى كغنيمة حرب، وهو أمر طبيعى عندما ترى مشهد تمزق الأمة التى كانت عليه فى ذلك الوقت. هل نعرف أن العرب كلهم كانوا منخرطين فى الحرب مع الجهتين، جزء مع العثمانيين وجزء مع بريطانيا وفرنسا. ولذا كان تقسيم الجغرافيا حينها كما أراد جنرالات الحرب، وهو إكمال لمسار تمزيق الشعوب.
ولا يذكر أحد الآن أن الجغرافيا السياسية وشكل الدول غير ما هى عليه الآن، من دارفور إلى الخليج العربى.
فقد جرى يومها تجميع وتفكيك المنطقة مثل لعبة قطع البازل. وهانحن كما يبدو نهيئ الملعب لنفس لعبة تجميع وتفكيك صور البازل. هل نعيد التذكير أنه حتى عشرينيات القرن العشرين كانت هناك دول لم يعد يذكرها أحد، كإمارة عربستان وآخر حكامها الامير خزعل بن على الكعبي!!. (استلم الحكم بعد مقتل أخيه مزعل بن جابر الكعبى عام 1897، يعتبر من أهم المؤثرين فى منطقة الخليج العربى أثناء حكمه، كان حاكم المحمرة والأحواز فى عربستان خلال الفترة من 1897 إلى 1925 وآخر أمرائها، وقد قتل فى عام 1936 فى طهران بعد 11 سنة من أسره.).
تلك جغرافيا متحركة لتاريخ ساكن!. والآن جنوب السودان صار دولة، وماتبقى من السودان يهدد بالفك والتركيب. ومثله بقية جغرافيا الوطن العربى التى كانت واقعا آخر.
هل ما يجرى من حرب قائمة تريد إحراق السهل أم تقسيم مغانمه. فالحرب التى قيل عنها لأيام ثم سترتب وضعها هاهى توميء بأنها ستستمر سنوات، كما هو واضح، واتمنى أن يخيب ظني!.
والتوحش الذى يتصاعد لا يتوقف بقتل نصر الله والسنوار، بل يحلم بأن يلتهم الجغرافيا ويخرج الأمة من التاريخ، ولكن منطق التاريخ نفسه يقول إن ذلك لن يتم لأن هذه الأمة نفسها فاقت بعد تمزق، وصنعت استقلالا فارقا بعد سنوات قهر طويلة فكانت حركات الاستقلال.
وما يجرى حاليا من شعور بالهزيمة وسيناريوهات التمزيق، بداية يقظة بحيث لا يكون الأمر مسرحا لصراع إسرائيل وايران. وليس بالضرورة يمهد لاستعمار جديد، بل هو يجعل الروح متقدة لاستقلال آخر.
استقلال يخرج من هذه الهزيمة التى تتجاوز مجرد كونها سقوطا عسكريا إلى سقوط قيمى، ليتجاوزها بوعى آخر.
الكاتب سفير اليمن في المغرب
نقلا عن جريده الاهرام القاهريه