نستقبل عاما جديدا بكثير من التحولات ومزيد من القلق فى عالم مضطرب، وأقول عاما جديدا ولا أقول سنة جديدة حتى أتشبث بالتفاؤل والأمل.
فأمة العرب كما تعلمنا بقواميس لغتها تقول إن لفظ العام يطلق عندما تكون أيام خير وسعادة ويطلق لفظ السنة عندما تكون الأيام تعبا وشقاء لذا قيل سنوات شداد.
وأنا من مدينة تفخر أنها كانت قبل قرون عاصمة للدولة الرسولية وكان فخر ملوكها استضافة الأدباء، ومن أهم إنجازات تلك المرحلة كان أشهر معجم للغة العربية أى القاموس المحيط للفيروز آبادي، الذى عاش آخر عشرين عاما من عمره فى اليمن قاضيا مبجلا.
ويبدو أن السنوات العجاف لا تنتهى فى عالمنا العربي، وليس مصادفة أن تكون كل المذكرات تحكى عن سنوات العمر لا أعوامه!
وأعود إلى مفتتح حديثى المتفائل، وأقول ودعنا سنة أخرى من القلق، وها نحن نبدأ العام الجديد وكأنه يبشر بسنة أخرى متحورة مع تحورات فيروس كورونا! ولكن نتمنى ألا يكون آخره كأول أيامه.
من يتذكر نهاية عام 2019 سيجد كمية الدهشة وسيل القفشات العجيبة عن إجراءات كورونا وتخبط العالم مع كيفية مواجهة الجائحة، التى تكرست مع مطلع سنة 2020، وانتهت مرحلة المزح تلك ليدخل العالم فى غم الجد والترقب، والآن بدأ العالم يعزز من مسار جديد واضح وهو أن عالم ما قبل كورونا ليس هو عالم ما بعدها.
باختصار مرحلة بالكامل تُصنع وليس مجرد تحول بثروات شركات الأدوية، وشركات التواصل والتكنولوجيا. هناك عالم يتخلق فى الصراع على المعرفة والتحكم بالمستقبل، وطرق حياة تتبدل من اللقاءات الافتراضية إلى نمط الحياة وأسلوب التعليم، ومثلما كنا نقول إن الحياة مستحيلة دون ماء وغذاء يمكن أن نضيف وإنترنت!
أما سلوكيات العالم وما هى أولوياته فهاهى تتخلق وأصبح لبس الكمامة مقدما على معطف الشتاء، وأخذ الجرعة المضادة هو المقرر الاعتيادى الإجباري.
من يتذكر كيف كان فحص التحقق من وجود فيروس كورونا فحص(البى سى آر )، كان حكرا على مختبرات بعينها وثقيلا فى كل العالم، الآن فى دول أوروبا تحصل على علبة الفحص الأولية من الصيدلية وتحصل على النتيجة بنفس الوقت !
ومثلما أصبحت مصانع المنظفات والمطهرات قبل مصانع الغذاء، وجدنا أرباح شركة أدوية فى عام تفوق مدخول النفط، أما قيمة شركات التواصل والتبضع الإلكترونى فتجاوزت التريليونات.
ورغم أن جائحة كورونا لم تكن رحيمة بالاقتصاد العالمى جراء القيود التى فرضت فى معظم دول العالم، لكن الشركات التى طورت اللقاحات المضادة للفيروس وحصلت على الترخيص قبل غيرها حصدت أرباحا تُقدر بمليارات الدولارات، بدءا بتحالف شركتى الأدوية فايزر الأمريكية وبايونتيك الألمانية الذى نشر نتائجه المالية قبل أيام.
حيث تبقى فايزر ــ بايونتيك المستفيد الأكبر، محققة 10٫8 مليار دولار فى النصف الأول من عام 2021، ووصلت إلى 33٫5 مليار دولار من مبيعات لقاحها نهاية العام الماضي. وحققت بايونتيك مبيعات من اللقاح بقيمة 15٫9 مليار يورو، بالنسبة لعام 2021، ولن أكمل الأرقام المهولة التى من شأنها إعادة رسم مسار آخر للاقتصاد .
وعودة إلى اللغة العربية ستجد أن كل تقارير هذه الشركات تذكر كلمة عام مدركة أنها تقصد أن الوضع أكثر سعادة، بينما نكتب نحن عن ذكرياتنا فى هذا العام بأنها سنة صعبة.
وأنا لا أحب كثيرا الانسياق حول نظريات المؤامرة ولكن بطبيعة الحال علمنا الواقع المتغير ألا نستبعد شيئا مع هذا العالم الذى جعل الشك والريبة من كل شيء منهاج حياة، فها نحن استقبلنا هذا الأسبوع العام الجديد، والصراع على أشده نحو إكمال ترويض العالم ضمن معايير كورونا، من وقف الحركة وتعزيز التباعد، وإعادة رسم منحنيات الاقتصاد العالمي، ابتداء من برامج التكنولوجيا وحتى أسعار النفط والغاز، مرورا بعولمة جديدة تريد خلق مواطن افتراضى على نسق ( برامج التواصل الافتراضى) وتجارة إلكترونية لامحلات ولا عقارات بل مواقع افتراضية والتى صارت أساسية فى كل شيء، وكأنه بداية عام يكرس خطوات سنتين سابقتين.
وفى منطقتنا لا تكفى حرب كورونا وكسادها لتضرب اقتصادات هشة هنا وهناك، ولكننا عمليا نحن فى أتون معارك لا تنتهى وضمن منطقة فيها حروب دامية لا تتوقف من إثيوبيا وحتى الحدود التركية، مرورا باليمن وسوريا وليبيا وفلسطين وما يجرى فى العراق ولبنان يضاف إلى ذلك.
ومايثير الدهشة هذا التلاحم الحميم بين شركات الأسلحة وشركات الأدوية، ففى مناطق الحرب تختفى كورونا، وفى أماكن الهدوء يزدهر الفيروس وكأنه يراعى أحوال الناس أو يخشى أزيز الرصاص!.
الكاتب سفير اليمن في المغرب
نقلا عن جريدة الاهرام القاهرية