يمتلك الشيعة اليوم أكبر مجموعة من الاحتفالات الدينية-السياسة: ذكرى ميلاد الرسول، عيد الغدير، ميلاد الإمام زيد، استشهاد الإمام زيد، كربلاء، أربعينية الحسين، والمناسبات الاحتفالية بنساء العائلة الهاشمية (فاطمة، زينب، رقيه).
كان “ريجيس دوبريه” قد لفت نظرنا إلى أن الاحتفالات في البلدان الشمولية والانتقالية تحل محل السلع في المجتمعات الرأسمالية. ففي حين تبدو المجتمعات الرأسمالية ركاما ضخما من السلع، تبدو المجتمعات الشمولية ركاما ضخما من الاحتفالات.
فما الوظيفة الطقوسية والسياسية للاحتفالات في عالم الشيعة اليوم؟
البشري والإلهي في العائلة المقدسة
ليس صعبا ملاحظة أن الاحتفالات كلها تدور حول “أشخاص”.
يحتفل المسلمون بالمولد النبوي، لكنه بالنسبة للشيعة يصبح احتفالا بـ”الجد المؤسس” للعائلة المقدسة، أكثر من كونه احتفالا بنبي المسلمين. فإلى جانب رسالته الإلهية يكتسب “محمد” عند الشيعة دور”المؤسس” لملك سياسي ديني ستتوارثه عائلته الى يوم الدين.
تنتقل الاحتفالات من الجد المؤسس إلى الأبناء والأحفاد في عائلة (علي وفاطمة) الذين يتم تطويبهم كعائلة مقدسة ذات طابع مزدوج (بشري – إلهي).
الحسين مثلا يكتسب عند الشيعة نفس مكان عيسى عند المسيحيين. ومقتل الحسين يأخذ نفس مكانة صلب لمسيح. وكما يتناوب البشري والإلهي في التصور المسيحي لعيسى، يكتسب الحسين طبيعة مزدوجة (بشرية إلهية)، وكما ظهرت المسيحية كدين بعد مقتل المسيح بعد أن كانت في البداية مجرد تصحيح لليهودية، ظهر المذهب الشيعي بعد مقتل الحسين بعد أن كان جزءا من التيار العام للسنة.
تقديس الدنيوي وتدنيس الديني
إن الإنجاز الكبير الذي حققته “الحداثة” أنها نزعت القداسة عن العالم وأسست للدنيوي والمتغير والسياسي. لكن الجماعات الدينية وقد عرفت أنها لا يمكن أن ترفض الحداثة تلجأ إلى “تزوير الحداثة” أو ابتكار نوع من الحداثة البدائية. وإذا كان الجانب الظاهر في الاحتفالات الشيعية هو تخليد أفراد العائلة المقدسة، فإن لها هدفا أبعد هو تديين السياسي وتسييس الديني أو بعبارة أخرى إضفاء القداسة على الحداثي.
يصبح الخلط بين الدين والسياسة في الاحتفالات آلية لممارسة القوة وتهميش المقاومة. فلو نظرنا لاحتفال السنة الماضية بالمولد النبوي في صنعاء، لوجدناه خليطا من “العلمنة” و”التديين”. من ناحية يتم علمنة المولد النبوي وتحويل الاحتفال إلى نوع من “التسويق الاجتماعي” عبر اللافتات والملصقات والجرافيكس والمواد التلفزيونية ذات الاهتمام الدنيوي.
لكن في نفس الوقت يتم تديين الشعارات السياسية لتتمحور السياسية اليومية حول القرآن والشريعة وتعاليم الرسول، وليس حول الاقتصاد وتداول السلطة. تتحول السياسة إلى لاهوت، ويتحول اللاهوت إلى استعراض سياسي، لكن المراوغة لا تنتهي عند هذا الحد.
وكما يتم تديين السياسة يتم “علمنة الدين” في احتفالات العائلة المقدسة: يختفي الشيطان الديني (الوسوساس الخناس)، وتتحول أمريكا إلى شيطان لكنه شيطان معلمن، يقود الاستكبار العالمي ويبدد ثروات الشعوب.
هذا التوتر بين تديين السياسة وعلمنة الدين يلتقي مع توتر آخر بين تأليه العائلة وإضفاء البشرية على الدين. ففي حين يتم تحويل الدين إلى ميراث بشري لعائلة معينة، يتم تحويل العائلة إلى نص مقدس. أما الزعيم فليس قائدا للجماعة فقط، وليس فقط الشخص الوحيد القادر على تفسير القرآن، بل يصبح قرآنا متحركا كما كان المسيح إنجيلا متحركا.
نقل الصراع السياسي من الدولة الى المجتمع
لكن لاحتفالات العائلة المقدسة وظيفة أخرى هي نقل الصراع السياسي من الدولة إلى المجتمع. فلا يعود التنافس السياسي يدور حول الانتخابات والبرلمان والاقتصاد، بل ينتقل إلى صراع حول الهوية والخصوصية الثقافية وحقوق الطائفة .
تلعب “احتفالات العائلة المقدسة” وظيفة هامه جدا هي وضع المجتمع في حالة تصعيد وتوتر وقلق دائم. لهذا تتكرر الخطابات وتطول عند كل احتفال وتتحول الاحتفالات إلى وسيلة لتمتين التضامن الداخلي للطائفة وتذويب الفرد في مجموعة وتحويل كل مواطن الى جندي مخلص للسيد او القائد.
يفرق الفرد في الطائفة التي تلاحقه بالاحتفالات وخطاب التهديد والخطر، ويغرق المجتمع في ركام الاحتفالات التي تصبح بديلا للإنتاج والإنجاز على أرض الواقع، بل تتحول إلى بديل للسياسة والهوية الوطنية.
نجد نفسنا أمام مشهد مركب: تحضر ثلاثية الطائفة، والميليشيا، والعائلة المقدسة. تصبح الطائفة بديلا للهوية الوطنية والبرنامج السياسي، وتصبح الميليشيا بديلة للعمل السياسي وصندوق الاقتراع، وتصبح العائلة المقدسة بديلة للشرعية. هذه هي الوظيفة العميقة لاحتفالات العائلة المقدسة من الغدير الى كربلاء الى المولد النبوي