مركز الدراسات والبحوث اليمني الإهداء : إلى صديقتي الأثيرة صباح الإرياني حين عدت من دمشق إلى صنعاء، في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، كنت تائها، مشردًا، وحيدًا، لا أعرف لي هدفًا، ولا أحمل في ذهني مشروعًا للمستقبل، وفي أي المدن سيكون قراري واستقراري، صنعاء مدينة موحشة، كئيبة، مليئة بالغبار والمخبرين والوجوه الكالحة القادمة من الهضاب والجبال.
وإن لم تجد امرأة لها رائحة المدن القديمة، والمسكونة ببوابات أسوار صنعاء، محجوبة بالعباءة الملونة، و”الستارة” الصنعائية التي تحمل عبق التاريخ، كي تكسر تلك الأنثى المعجونة بأساطير ألف ليلة وليلة، حدة الغربة، وتقودك آمنا لاكتشاف تضاريس المدينة بعيدًا عن فوضى الطرقات، ودهاليز الضياع.
في المرحلة الطلابية، لا تحمل هما، تعيش يومك كصوفي درويش، يقنع بكسرة خبز يابس، وقطرة ماء.
كل شقق الطلاب، مفتوحة أبوابها، والمنحة الدراسية تنقذك من حد الكفاف، ورغم هذا فأنت ملك يمينك ( لست سكان يمين ! ) ، وتعتبر تلك المرحلة أجمل سنين عمرك . سآخذكم بعيدا إن تحدثت عن دمشق ، شوارعها ، صباياها ، وتلك الذكريات التي لا تمحى من الذاكرة.
كنت لن أسامح نفسي، لو لم أقم بتوثيق المرحلة الشامية من حياتي. كتبت ذلك في الجزء الثاني من ( محطات من العمر ) – المقامات اليمانية في محطات الذكريات الشامية.
صديقي الشاعر النبيل إسماعيل الوريث، هو من أنقذني من متاهات البحث عن وظيفة، كنت مقيما قي تعز، وأقيمت فعالية ثقافية لاتحاد الأدباء في المركز الثقافي، بعد عودتهم من عدن، شارك فيها مجموعة من الشعراء والأدباء. كان ذلك قبل الوحدة، وضمن فعالية نقابة الأدباء لترسيخ فكرة الوحدة اليمنية. الوريث الرائع أخذني معه إلى صنعاء، بالسيارة المخصصة لوفد الأدباء، وكان ثالثنا القاص المبدع كمال الدين، القادم من عدن.
في الطريق اقترح الوريث أن أعمل في مركز الدراسات والبحوث اليمني، وسيتكفل هو بمحادثة الدكتور عبد العزيز المقالح في موضوع التعيين. هكذا أصبحت موظفًا متعاقدًا، لعدم وجود درجة وظيفية رسمية في ذلك الحين.
عملت في قسم الحسابات، حسب تخصصي، مع مدير الحسابات، ومندوب المالية، العملاق عبد الملك تقي، صهير بيت العسولي، والساكن القديم لجحملية تعز. وأمير الجيش، كما كان يردد دائما، محمد بن محمد مطهر، ذلك الكائن الجميل، كان المدير المالي، قبل أن يتفرغ لوظيفة باحث في المركز، ويخلفه في المنصب الصديق الشاعر، أحمد الخوربي.
مشكلتان ظلتا تنغصان عليّ ديمومة الوظيفة: شهادة حسن السيرة والسلوك التجنيد الإلزامي وهذا موضوع يحتاج لمقالات وبحوث وسرد لعالم غريب، عجيب، مليء بالإثارة والمغامرات، حاولت أن أسجله في الجزء الثالث من محطات العمر، آمل أن يرى النور قريبا، بإذن الله، كان جاهزا للطبع، ولكن الحرب الظالمة أعاقت تنفيذ المشروع وتأجيله، كما فعلت بكل شيء جميل في اليمن.
كان المركز بيتنا، شعرت بالألفة، وحميمية المكان، ونقاوة الناس الذين يتحركون في محيطه، كان أقرب للمعبد المقدس ، بالهدوء الذي يشمله، والصمت الأقرب للهمس، بسبب وجود المكتبة الضخمة، ومتطلبات البحوث والدراسات، ونوعية الزوار والقرّاء . كل هذا كان يغري بالقراءة والكتابة، والإحتكاك بصفوة أهل الرأي والأنتلجنسيا.
الأستاذ عبد الباري طاهر وصديقه الحميم الشاعر إسماعيل الوريث ، كانا يدرسان في كلية الآداب، جامعة صنعاء، وكانا يلتزمان بحضور المحاضرات ، مع التواجد في المركز حسب الدوام الوظيفي المعتمد . وكم هي المرات التي كان يصحبني فيها الوريث العظيم ، بسيارته السوزوكي القديمة ، ملكية المركز ، والتي آلت إليه بحكم الأقدمية ، رغم أنه يستحق أحدث السيارات فقد كان – رحمه الله – بدرجة وكيل وزارة ، ولكنه كان عفيفا ، زاهدا ، تقيا ، نقيا ، شاعرا ، أديبا لم تلوثه يد الفساد.
وهل يمكن إغفال تلك الكوكبة الرائعة من صبايا المركز ، مثقفات الصفوة ، باحثات ، كاتبات ، مترجمات ، يمنحن الألق للمكان ، يضوع عطرهن برائحة الكتب ، ومداد الوراقين : بلقيس الحضراني – صباح الإرياني – فوزية قحطان – أفراح الحمامي – أحلام عباس – هدى طالب .. ما زال طعم ذلك الفطور الجماعي المعدّ من قبلهن ، يتغرغر في فمي ، كلما تذكرت جلستنا في المبنى الجديد للمركز ، ضيفا دائما على مائدتهن العامرة ، حيث كان مكتب الأستاذ محمد الرعدي ، نائب رئيس المركز ، والذي خلفه بعد ذلك الأستاذ يحي علي الإرياني . كانت حديقة المركز تتابع خطواتنا الصباحية الباكرة ، حيث كنا – صباح الإرياني وأنا – نمارس معا هواية المشي السريع والبطيء ، والثرثرة الثقافية التي لا تنتهي .
حتى تلك الساعات الثقيلة ، المفروضة علينا في قاعة الإجتماعات ، من يوم الخميس ، يوم إجتماع الميثاق الوطني ، الساعات المهدرة ، العبثية ، كنا نعيشها بطريقتنا الخاصة ، في الرسوم الساخرة ، والكلمات المتبادلة ، بعيدا عن أجواء الزيف الميثاقي ! لن أغفل عن ذكر بقية الصحاب في المركز ، ولن أهنأ بإنهاء المقال ، إن لم أنبش ذاكرتي بأسماء من عبروا حياتي ، في واحدة من محطات عمري ، وفي مقدمتهم الشاعر الكبير ، الدكتور عبد العزيز المقالح ، رئيس المركز : عبد الرحمن الأمير – عبدالصمد القليسي- عبدالله الشرفي – الثلايا – عمي حسن وولده خالد – الصوفي – عبدالله عبدالرب – محسن البارده .. وآخرون لم تسعفني ذاكرتي في استحضارهم هذه اللحظة العابرة .