فى المؤسسة الصحفية العريقة التى بدأت العمل بها قبل سنوات طويلة كان أمين الصندوق أهم موظف عند معظم الزملاء .!، حيث ترتيب الصرف الشهرى والسلفات المؤجلة، كانت أهم من قضايا الساعة وآخر الأخبار.
كان أمين الصندوق مزهوا بنفسه أول كل شهر ككبير المحررين، كان زمنٌ فيه وظيفة أمين الصندوق تحظى باهتمام كل المحررين وعمال المطبعة، وفى تعز المدينة المكتظة التى عشت بها، كان مثلا أمين صندوق مكتب وزارة التربية والتعليم يسير محاطاً بعشرات المراجعين والحراس، فهو مطلوب من آلاف الموظفين الذين يقبضون منه كل شهر نقدا وعدا، الآن حسب تقييمات النظام العالمى الجديد تلك وظائف منقرضة ففى النظام المصرفى تتسلم راتبك إلكترونيا وفى الدول الفقيرة لا تتسلم راتبا من أصله!.
كنت أستمع قبل قليل عبر إذاعة دولية للقاء صحفى تم إعداد أسئلته عبر الشات جى بى تى، حيث يجرى تطبيق الذكاء الاصطناعى فى كل شيء ونجد أنفسنا فى وضع سيفقد الصحفى نفسه وظيفته وليس فقط أمين الصندوق وموظف البنك. ونرى قارئة نشرة الأخبار روبورت، وكبير الباحثين شابا ينسق المواد القادمة من مواقع إلكترونية لا من أبحاث ميدانية.
ويهرع الكثير نحو تطبيقات الذكاء الاصطناعى من باب التسلية، أو تعزيز الكسل الذهنى، لإعداد بحوث مزورة مثلا بدلا من توظيف قدراته فى تعميق المعلومة، بينما العالم يسعى لفتوحات مخيفة من السيطرة على المعرفة والقدرات.
مبعث الحديث السابق كله جرى وأنا أستمع للقاءات لا تنتهى عن التطور المعرفى وتعقيدات التكنولوجيا التى تحل محل البشر، وخلال الأسابيع الماضية فقط، لقيت نفسى محاصرا بأكثر من لقاء واسع عن تكنولوجيا الذكاء الاصطناعى، والتطور المهول فى عالم التواصل العالمى، ومن ندوة عن دور الصين فى السيطرة على الفضاء الجديد إلى تجربة كوريا فى نظام التعليم إلى الأبد الذى عقد قبل يومين فى رحاب الإيسيسكو، حيث تؤكد التجارب أن ثمة إشراقة أخرى من الشرق البعيد، أما شرقنا الأوسط الجميل فغارق فى صراع الهويات القاتلة، وحروب التاريخ الدامية.
وأصاب بالحسرة كلما وقفت فى لحظة مقارنة مؤلمة، حول جيل عالمى يحلق بعيداً فى سماء التطور والمعرفة، وجيل من صغارنا تتخطفه حروب الكراهية والتشظى المعادى لقيم العصر.
فى مؤتمر علمى دولى قبل أيام فرحت وأنا أرى طفلة صغيرة تقدم لنا عرضا مطولا عن علم الفلك، وأحزننى اتصال متقطع عن أطفال تغيبهم الحرب فى اليمن.
كانت مفارقة موجعة، حيث اللقاء الدولى يتحدث عن وقاية الأطفال وحمايتهم عبر الأمن السبرانى، وكيفية توظيف مهارات الصغار الخارقة فى تلقف التكنولوجيا، وإمكانية أن يقدم الصغار العون لآبائهم وجيل الأجداد ليكون كبار السن، على علم بالحد المعقول من مهارات استخدام التكنولوجيا، خاصة فى مجال التواصل، حتى لا يضل الكبار، أو يشعروا بالعزلة وعدم القدرة على التواصل ويصيروا ضحايا الأمية الجديدة.
بينما يشكو أهل بلداننا الأبرياء فى كيفية إنقاذ الصغار من حقول الألغام، وألا يقعوا فريسة مخيمات التجنيد الإجبارى والاخفاء القسرى.
أطفال العالم يحلقون بعيدا فى سماء المعرفة، وصغارنا يحاصرون فى واقع بين براثن الجهل وسوء التدبير.
تلك مفارقة مفجعة تتطلب وقفة جيل وكل المجتمع.
والمشكلة الأساسية فى واقعنا العربى، ليس فقط تزايد الفجوة المعرفية مع العالم، ولكن فى تعزيز خطاب مجافي لقيم التطور والقبول بالآخر، وغياب لجزء آخر مهم فى تنشئة الجيل عبر تراجع تعليم التفكير العلمى والتحليل المنطقى، وإحداث توازن عقلى ونفسى مهم بتعميق المعرفة بالعلوم الإنسانية، بجانب علوم العصر ، فلا يمكن الذهاب إلى آفاق التقدم دون منظومة تربوية متكاملة من تأهيل علمى وقدرة على التحليل النقدى، وروح مشبعة بالانتماء الأصيل، البعيد عن روح التعصب والكراهية والصراع ورفض الآخر.
كان طه حسين يقول قبل ثمانين عاما إن التعليم مهم للناس كالماء والهواء، ولحسن حظ عميد الأدب العربى أنه مات ومازال الأمل يملأ النفوس، والناس تتقاسم الماء والهواء وقليل من المعرفة، أما لو امتد به العمر ليرى أرذل الأيام لمات اختناقا بعبرات القهر ،حيث صارت المطالب البسيطة أكثر صعوبة فى الحصول عليها ،خاصة فى بلدان الصراع حيث لا هواء لغياب الأوكسجين الذى يدمر المستشفيات ويفتك بالمرضى، والجفاف الشامل الذى غدا سمة المرحلة كلها، الجفاف والتصحر النفسى والفكرى بمعناه الواسع، وليس فقط انعدام المياه التى تعانى أيضا من حربا لا تقل ضراوة عن حروب الاستقلال!.
الكاتب سفير اليمن في المغرب
نقلا عن جريده الاهرام المصريه