انتهى العيد وكل مظاهره وليس أجمل من تعبير أبى الطيب المتنبى ،الذى ربما نتخيله على كل لسان حولنا وفى كل بلد: (عيدٌ بِأَيَّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ بِما مَضى أَم بِأَمرٍ فيكَ تَجديدُ **أَمّا الأَحِبَّةُ فَالبَيداءُ دونَهُمُ فَلَيتَ دونَكَ بيداً دونَها بيدُ)!,
ولكن بالنسبة لليمنيين فالأمر مختلف وأحكى هنا عن مشهد أول أيام العيد فى عدن مدينة اليمنيين الفاتنة التى شكلت لكل اطيافهم بوتقة وطنية حقيقية، ونافذتهم إلى العصر والحضارة دوما.
الصورة التى لم يطالعها العالم حتما بنفس شغف اليمنيين، وشكلت عندهم حالة أمل جديدة، هى عودة كل سلطات الدولة اليمنية الشرعية، وممثلى القوى السياسية فى صلاة العيد. تلك صورة عند العالم كله روتينية لا معنى لها، لكنها عند اليمنيين اليوم ذات إشارة أعمق من مجرد تأدية فريضة واجبة. حيث تعنى بدء لم شتات طال لثمانية أعوام، والناس التى تاقت للسلام ووقف الحروب ،تتوق لعودة الدولة والنظام أكثر من أى شيء آخر. لهذا تفرح بكل خطوة على الأرض تراها ولو كان تجمعا للقيادة السياسية لتصلى العيد مع جموع الناس فى عاصمتهم. الأمر أعاد للناس إحياء الأمل بعودة الدولة، وهى الخطوة الأهم لاستعادة الحياة، وتحقيق أى سلام منشود.
للذين عرفوا أو عاشوا للحظات حروب طاحنة وذاقوا مرارة معنى الانفلات الأمني، وغياب مؤسسات الدولة، وتحكم ميليشيات الحرب. سيعرفون ما أقصده و معنى توق الناس لعودة الدولة خاصة مع إتمام سبع سنوات عجاف من حرب مدمرة ودخول العام الثامن فى نفق لا آخر له.
و قد خبر اليمنيون مرارة الشتات طويلا منذ الآية الكريمة حول تفرق أيادى سبأ،
حيث جاءت قصة سبأ مرويّةً على لسان ربّ العزة فى كتابه الكريم وفى سورةٍ خاصةٍ باسم هذه الأمة سورة سبأ (..وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ). إلا أنهم الشعب الموصوف بالصبر والحكمة والأكثر قدرة على عودة روحه وتلاحمه.
ولن أفرط فى التفاؤل حول سقف الهدنة التى أعلنتها الأمم المتحدة مطلع أبريل الماضى وقالت لمدة شهرين، ومضى أكثر من نصفها الآن بخروقات لا تحصى، وصارت فى مهب الريح وتحت رحمة مزاج الميليشيا المنفلت، ولكن قوة صمود أى هدنة نراها فقط بسقف الأمل الذى رفعه اليمنيون أنفسهم، فالشعب يريد السلام وإنهاء الحرب، وميليشيات التمرد وتجار الحروب يقتلهم السلام، لذا تعمل الميليشيا جاهدة لقتل كل بارقة أمل نحو آفاق الحل السلمي، ونحو عدم استعادة مؤسسات الدولة وخلق الاستقرار،كون عودة مؤسسات الدولة من يمهد لمسار أى سلام منشود.
وتبقى الخطوة الأهم التى يعرفها الناس بحدسهم وبحكم معاناتهم وخبرة واقعهم المرير، أن خطوة لم شمل صف القوى الوطنية وإعادة عدن عاصمة تفتح نوافذ الأمان والتواصل الحضارى هى الخطوة الأبرز لكل مشروع نحو السلام، وتلك أكبر معارك الانتصار للوطن. ومنذ عودة مجلس القيادة الرئاسى والحكومة والبرلمان إلى عدن الشهر المنصرم والرهان على تحقيق السلام يرتفع ليس فى قهر ميليشيات الحوثى عسكريا، ولكن بتثبيت نموذج الدولة الذى سيصنع النصر والسلام.
خطاب الشارع اليمنى البسيط فيه (حكمة اليمانيين) التى غابت عن الكثيرين من القادة والمؤسسات الدولية، وهو أن عودة الدولة ومؤسساتها، وبقاء ممثلى الأمة من برلمانيين فى وسط دوائرهم يمدون جسور التواصل هو المطلوب لوقف حرب تبدو لا آخر لها، بينما نهايتها واضحة بخطوة لاثانى لها، وهى أن تعود الدولة ومؤسساتها الديمقراطية وجيشها الواحد أولا، ثم ما تبقى تفاصيل لأزمة ستنتهى بالكثير من العمل. لذا فالحل يبدأ من هنا من استعادة مؤسسات الدولة، وخلق استقرار يقود إلى سلام حقيقي. والهدنة المؤقتة تفتح الطريق لبدء مسار السلام، وهو مسار شاق حتما، فشجاعة السلام أصعب من قرارات الحرب.
ومواجهة التشظى ولملمة الصف هو التحدى الأكبر، والذى لا يتحقق إلا بيد أهله أولا مهما يكن ضغط الخارج واسهامه، وتلك شجاعة تفوق مواجهة السلاح وحمله. وما يلفت النظر أن المجتمع الدولى الذى أعلن الهدنة الإنسانية فى الأول من أبريل المنصرم، لم يضع لها آلية للمراقبة بل تركها لليمنيين وضميرهم.
ورغم كل الخروقات الواضحة التى يعلن عنها، فإن سقف الأمل عند اليمنيين لم ينخفض لتعكس رغبة جامحة فى إنهاء كارثة حرب مدمرة، ولكن السلام لا يتحقق بمجرد الأمنيات ولا يمكن تصدير الوهم للناس حتى لا تتضاعف خيبة الأمل القائمة، فالأمر بحاجة إلى إرادة سياسية وطنية وإقليمية ودولية وقوة تحفظ المسار وتحقق أمنية الشعب الذى ملّ الحرب وكره حكم الميليشيات، وتاق للدولة المدنية الضامنة للحقوق وصون الحريات.
معركتنا ليست قهر الانقلاب فقط، ولكن بناء اليمن واستعادة الدولة وتلك تحتاج الانتصار فى معركة بناء حقيقية تبدأ بوقف التدهور ووقف التشظى القائم.
الكاتب سفير اليمن في المغرب
نقلاعن الاهرام المصريه