أمام التحدي الأكبر الذي واجه العالم منذ الحرب العالمية الثانية، وهو تحدي فيروس «كورونا» الذي اكتسح العالم، وهدد أرواح البشر بشكل غير مسبوقٍ، منذ عقودٍ طويلة، قررت السعودية الدعوة لـ«قمة العشرين» التي تترأسها هذا العام لتنسيق الجهود الدولية في مواجهة هذا الوباء، وبالفعل انعقدت القمة يوم الخميس الماضي، 26 مارس (آذار).
قمة افتراضية لدواعٍ طبية قادتها السعودية بكل اقتدارٍ، وأوضحت بكل جلاء اهتمام السعودية بالإنسان، بغض النظر عن أي فروقات اخترعها البشر وتفنن في نشرها المتعصبون العنصريون، وقد أثنى على نجاح القمة غالب زعماء العالم العشرين، وغيرهم، ونتج عنها قراراتٌ مهمة للشروع في مواجهة هذا الوباء بشكلٍ عمليٍ.
يجمع كثير من المحللين على أن العالم بعد فيروس «كورونا» لن يعود كما كان قبله، أقلّه في المجال الصحي ومجال النقل الدولي، ففي المجال الصحي سيعيد العالم ترتيب أولوياته ليجعل للصحة والاستثمار فيها مرتبة متقدمة، بعدما خسر العالم كثيراً جداً من اقتصادياته وثرواته جراء الفشل الذريع الذي مُني به القطاع الصحي في أغلب دول العالم المتقدمة، ومجال النقل الدولي ستطرأ عليه تغييرات تخفف من انفتاح العولمة، وتحدّ من انتقال الأوبئة والجوائح.
مَن كان يظن بعد التقدم الذي وصلت إليه البشرية أن وباء أو جائحة ستكتسح العالم في القرن الحادي والعشرين! في الواقع لا أحد تقريباً… وما دام الفيروس قد فرض نفسه على أولويات العالم، وأصبح حقيقة واقعية تصدرت كل أولويات العالم، فإن التغيير قادمٌ لا محالة في المستقبل القريب، وبمجرد أن يجد العلم دواء أو لقاحاً ضد هذا الفيروس.
من هنا جاءت دعوة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز رئيس «قمة العشرين» بكل وضوحٍ إلى «تقوية الجاهزية العالمية لمواجهة الأمراض المعدية مستقبلاً»، فهذا استشرافٌ حقيقي لتغير الأولويات الدولية في هذه المرحلة، ما يوجب رسم الاستراتيجيات الفاعلة لمواجهة الواقع والاستعداد مستقبلاً لمثل هذا التحدي الكبير.
حُقّ لكل عربي ومسلم أن يفتخر بقيادة السعودية للعالم في أخطر تحدٍّ يواجه العالم منذ عقودٍ طويلة، وهو فخر شارك في الاعتراف به قادة العشرين دولة التي تقود العالم بأسره وتتحكم في مصائره، كما أن كل مواطني العالم كانوا يتطلعون إلى القمة، بقيادة السعودية، ويعقدون الآمال العراض لإيجاد مخرجٍ عملي ينهي هذه المأساة.
خرجت التوصيات والقرارات بتوحدٍ دولي لمواجهة حقيقية، وتعاونٍ دولي فاعلٍ يرسم خططاً شاملة للمواجهة، ويرصد تريليونات الدولارات لمواجهة الفيروس وتبعاته الشديدة الضرر على البشرية جمعاء، وآثاره المدمرة على اقتصادات العالم وصولاً لإعلان «صندوق النقد الدولي» عن وصول بعض أكبر اقتصادات العالم لمرحلة الركود.
حين ينشغل قادة العالم الكبار بالعمل على تخليص العالم من شرور هذا الفيروس الخبيث، فإن الصغار يصرّون على تصفية حساباتٍ صغيرة لهم مع السعودية، وهو ما فعلته الدولة الخليجية الصغيرة والدولة الراعية للأصولية، وجميع جماعات وتنظيمات الإسلام السياسي في المنطقة، وذلك بالسعي الفاشل لفتح بعض الملفات الصغيرة هنا وهناك، وتشاركها في ذلك تلك الجماعات التابعة لها، مثل ميليشيا الحوثي، وحركة «حماس» الإخوانية، وغيرهما.
وفي حين تساهلت كبرى الدول الأوروبية في مواجهة فيروس «كورونا»، ما جعل منها بؤرة كبرى من بؤر انتشار الفيروس وانهيار أنظمتها الصحية، فقد كان النموذج السعودي فريداً في المواجهة، بحيث كانت القرارات سريعة وحاسمة ومرنة تتطور مع تطور الأحداث والحقائق العلمية من جهة، وما يجري على الأرض من جهة أخرى، وهو نموذج يُقتدى به على المستوى الإقليمي والدولي.
المقصود بهذا السياق هو عرض المقارنات النافعة والمفيدة في الواقع والمستقبل، وليس أي نوعٍ من أنواع الشماتة، فلا شماتة في الموت ولا في الأوبئة والجوائح إلا لدى بعض المتعصبين والعنصريين المعاكسين لتطور البشرية ومبادئها الإنسانية المستقرة عالمياً، وهم يمثلون الاستثناء الذي يؤكد القاعدة ولا ينفيها.
لن تنسى البشرية هذا الوباء المفجع، وستبقى الدروس المستفادة منه ومن مواجهته طويلاً في تاريخ البشرية، وسيشار للناجح والفاشل بكل وضوح في هذه الحرب الواسعة التي فرضها الفيروس على الإنسانية بكليتها، من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، ومن الشمال إلى الجنوب، وهي حربٌ لم تنتهِ بعدُ ولم تُحسم، فنحن لم نزل في بداياتها، ولم تتضح ملامح نهايتها بعد.
لقد أعلن الملك سلمان من قبل أن الأولوية هي رعاية الإنسان سواء كان مواطناً أم مقيماً على أرض السعودية، وأن الدولة ستبذل الغالي والنفيس لخدمته ورعايته، ولن تتخلى عنه مطلقاً، وهو ما لم يحدث له مثيل في الدول المتقدمة شرقاً وغرباً، وهو إحدى مميزات النموذج السعودي في المواجهة مقارنة بالنماذج الأخرى.
يكلّف الأيام ضد طباعها، والدنيا عكس طبيعتها، مَن يحسب أنها يمكن أن تكون فرحاً ونجاحاً دون حزنٍ وفشلٍ، فهي مجبولة على اجتماع الأضداد وتقلبها على الدوام، وهو ما أوضحته بجلاء نصوص الأديان والفلسفات والثقافات، وهو ما يقوله التاريخ بوضوح في كل صفحاته وتقلباته لدى سائر الأمم والشعوب.
المواجهة الناجعة تتطلب حذراً علمياً وعملياً وليس هلعاً وخوفاً، وقد اكتشف العالم قيمة الدولة من جديد بعد عقودٍ تمّ فيها التقليل من قيمة الدولة، تحت شعاراتٍ حقوقية تمّت المبالغة فيها باعتبارها نقيضاً لمفهوم الدولة، وهذا أحد الأسباب التي أعاقت الدول الغربية عن سرعة ونجاعة المواجهة، وهو إحدى الأولويات التي سينتشر النقاش فيها بعد تجاوز الأزمة طويلاً.
سيعاد ترتيب الأولويات وصياغة المفاهيم في طبيعة العلاقة بين الفرد والدولة؛ فقد كشفت هذه الأزمة المأساوية أن الأفراد عاجزون كلياً عن مواجهة فيروس خطير، كفيروس «كورونا»، وأن أي مواجهة لا تدخل فيها الدولة بقوة وفاعلية غير مجدية ومحكومٌ عليها بالفشل، وهذا أمرٌ لا مناص منه في المستقبل؛ فالإنسان يتعلم من أخطائه والأحداث الكبرى والأزمات الخانقة تجبر الإنسان على التفكير وإعادة التفكير، وهذا تاريخ البشرية كله ينطق بذلك على طول مساره الطويل.
أخيراً، يجادل البعض بأن الصين ستصبح قائدة العالم بعد فيروس «كورونا»، وينسون أن الفيروس انتشر من هناك، وينسون أيضاً أن الصين لا تمتلك منظومة فلسفية أو أخلاقية لتصبح قادرة على تصديرها وبناء المؤسسات الدولية وفقها.
* نقلا عن “الشرق الأوسط”