شهداؤنا هم شهداء معركة الكرامة، سطروا بطولات خالدة، ضحوا بأرواحهم في سبيل الدفاع عن كرامة أمة وحرية شعب وسيادة الوطن.
قضى الشهداء نعم ورحلوا إلى السماء نعم لكن ذكراهم لم تموت، إنها باقية خالدة خلود بطولاتهم التي سطروها بدمائهم في معارك الكرامة، معارك دللت بكل المقاييس والمعايير على بسالتهم وشجاعتهم.
يستحضرني هنا رواية «الشهداء يعودون»؛ للكاتب والروائي الجزائري الطاهر وطار، والتي تقوم فكرتها على واقعية خيال تُحاكي قصة العودة إلى الحياة بأثر رجعي، وهي فكرة تبدو جميلة ومستحيلة لمن آمنوا بالشهداء وشاركوهم المقاومة.. ولكن كلنا يدري أن الجزائر قدمت مليون شهيد في ثورة التحرير ضد الاحتلال، وكان عدد سكانها أساساً لا يتعدى ستة ملايين في تلك الفترة، وقد استمر الاحتلال الفرنسي في الجزائر قُرابة قرن و32 سنة ميلادية (1830 – 1962).
هنا سأسقط الفكرة على اليمن العظيم، والتي قدمت عشرات الآلاف من الشهداء، وما زال رجالها وأبناؤها يقدمون أرواحهم، ويحاربون الظلم والكهنوت والسلالة والاستعمار بكل أنواعه منذ عقود من الزمن.
كل يوم يسقط شهداء ويرحلون اليوم وبالأمس وكل ساعة يرتقي شهيد من أجل العيش بكرامة وحرية وسيادة كاملة، بهدف بناء دولة يسودها العدل والنظام والقانون.
لقد شيعنا في السنوات الخمس الماضية وودعنا الكثير من الإخوان والأحباب والأقرباء والقادة والرموز، ولكل شهيد فيهم قصة وحكاية ومآثر عظيمة خلّفها من بعده، لا يمر يوم إلا ونتذكرها، وهي ذكرى مؤرقة ومؤلمة، لكننا نتعلم من ذكرى رحيلهم دروسا في الصبر والإخلاص والصدق وعلو الهمة، لأنهم كانوا قلبا يقظا, وعقلا واعيا, ونفسا مستعدة, وهمة عالية، كانوا إذا سمعوا هيعة أو فزعة من أجل الوطن والدين والكرامة هبوا أول الخارجين ممتشقين سلاحهم ميممين نحو عدوهم، لهذا رحلوا وتركونا نكافح ونقاوم.
في 7/12/2018م تحل علينا ذكرى رحيل الشهيد البطل النقيب/ نصرالدين فيصل جابر القشيبي الذي استشهد في عملية تحرير منطقة بني بارق في قلب جبهة نهم بعد أن خاض معارك كثيرة سطر فيها أروع الملاحم الخالدة منذ التحق بالجيش الوطني بداية تشكل نواته الأولى في معسكر العبر في شهر أغسطس من العام 2015م.
الشهيد نصر الدين حين نقف ونتذكر المعارك التي شارك فيها نتعجب من الروح الجهادية والهمة العالية التي كان يتمتع بها ويمتلكها؛ فقد شارك في معركة تحرير معسكر ماس في ديسمبر 2015م بكل شجاعة وإقدام، ثم انتقل بعد تلك المعركة التي كسرت شوكة المليشيا للمشاركة في معركة تحرير المناطق الشمالية لمديرية مجزر مناطق الحصون- السحاري- آل حميضة- آل حذقين في شهر يناير 2016م.
كما شارك في معركة تحرير مناطق الصفراء وبراقش في 30/3/2016م بقيادة ورفقة الشهيد العميد زيد الحوري، وكان في تلك المعارك أسد في الإقدام، طود في الثبات، استلهم منه زملاؤه كثيراً من دروس الشجاعة والفداء.
لم تنته مشاركات الشهيد نصر الدين في براقش، بل غير اتجاه البوصلة نحو صنعاء التي كانت في نظره قريبة ولابد من صنعاء، وشارك في اقتحام فرضة نهم التي كانت في نضر المراقبين والمحللين العسكريين عصية على أعتى القوات والجيوش من الاقتحام، وهي فعلاً عصية ووعرة، لكن حين يدرك المرء أن هناك رجالاً أمثال نصر الدين؛ فإنه لا مستحيل ولا عصي ولا وعر، لقد كان هدف أولئك الرجال صنعاء وصنعاء فقط، لذا شارك في معركة تحرير سلسلة جبال حيد الذهب في جبهة نهم شهر يوليو 2016م ومعركة تحرير سلسلة جبال البياض في جبهة نهم في شهر سبتمبر 2016م بقيادة الشهيد العقيد زيد البرح، كما شارك في تحرير سلسلة جبال القتب في شهر ديسمبر 2016م م بقيادة العميد الحجوري والشهيد البرح في ميسرة جبهة نهم، وكذلك سد العقران، وشارك في تحرير جبل الدوه في شهر يناير 2017م، وفي معركة تحرير جبال العياني في 9/3/2017م بقيادة العميد الحجوري والشهيد البرح.
لقد اعتكف الشهيد نصر الدين في جبهة نهم، وكان يعتبرها بمثابة محراب مقدس وأصوات الرصاص ودوي المدافع ابتهالات وتسابيح، لهذا شارك في معركة جبال الحمراء وجبال القناصين بقيادة اللواء الركن ناصر الذيباني والشهيد العقيد زيد البرح في شهر نوفمبر 2017م.
لقد كانت مشاركات الشهيد نصر الدين في المعارك التي خاضها متنوعة ما بين الهجوم والدفاع والتامين والإسناد منذ أول معركة خاضها.
ربما أعتبر هذه ذكرى رحيل لشهيد البطل رغم إيماني المطلق أن الشهيد المدافع عن وطنه وحريته وعقيدته لا يرحل؛ لأنه يترك أثراً يُحدث عنه طيلة الوقت بعد رحيله شهيدًا إلى الحياة الأخرى تبقى كلمات الشهيد ومواقفه وبطولاته وشجاعته وإقدامه حاضرة في أذهاننا.
إنني وأنا أتذكر مواقف وبطولات هذا البطل أقف عاجزاً عن أي شيء حتى رصِّ الكلمات لم أعد قادراً عليها، رغم إن الكلمات أحياناً تتسلق قلوباً نائمةً فتغسلها من عناء اللحظات، لكنها تجلب أحزاناً وأحزاناً.
ربما لأن الشهداء يرحلون وقد تركوا أثراً عظيماً في حياتنا، فهم خير قادة وخير قدوة لمن بقي خلفهم، فهم أناس حملوا همّ الأمة وبنوا لها إرثًا تسير عليه من بعدهم حتى لا تضل الطريق.
نتذكرك أيها الشهيد نصر الدين وكل شهدائنا الأبطال رفاق دربك وسلاحك؛ لأنكم زرعتم فينا حب البقاء رسمتم فوهة النصر على امتداد خارطة الوطن، إننا نتذكرك وسنتذكرك وسنظل نلمحك؛ لأن أنفاسك ممزوجة بعطر حقولنا.. وخضرة روحك من خضرة ودياننا.. وصوتك خفقات أفئدتنا.. سنتذكرك لأنك ستهب مع كل نسائم الوطن.. وسترد ذكراك فصوله الأربعة..
أتذكر وأردد في نفسي قول الشاعر:
ماضٍ وأعرف ما دربي وما هدفي
والموت يرقص لـي في كل منعطف
ومــا أبالي بــه حتى أحــاذره
فخشية الموت عندي أبرد الطرف
ولا أبـالـي بأشــواك ولا محن
على طريقي بي عزمي ولي شغفي
أنا الحسام بريقُ الشمس في طرفٍ
مني وشفرة سيف الهند في طرف
ورُب سيل لحون سال مـن كلمي
ورب سيلِ جحيمٍ سال من صحفي
أهفو إلى جنـة الفردوس محترقاً
بنارِ شوقـي إلى الأفياء والغرفِ
لقد سرت أيها البطل نصر فوصلت إلى الهدف، طلبت الشهادة فنلتها، عجلت طلب الجنة فوصلت إليها.. فنرجو من الله أن تكن أرواحهم الطاهرة نورا ونبراسا لنا يحيي فينا الهمة، ولتتعانق أرواحهم مع أرواحنا مع نفحات ذكراهم الطيبة النيرة لنجدد ونواصل الطريق ونحقق الهدف.