ما يجري في إيران من اضطرابات ومظاهرات لم يفاجئني، بل إنه -في رأيي- تأخر كثيرًا؛ فهذه الدولة الكهنوتية الصرفة لا يمكن أن تواكب العصر الحديث، ولا يمكن أن تستمر. صحيح أنها بقيت حتى الآن بالحديد والنار، لكن علاجًا كهذا قد يكون مسكنًا، لكنه لا يمكن أن يكون علاجًا شافيًا البتة، إلا أن يواكب القمع بالحديد والنار قدر معقول من النمو الاقتصادي والخدماتي. دولة الملالي في إيران تمعن كثيرًا في استخدام القمع، وفي الوقت ذاته تعاني انخفاض التنمية والتحديث، وتفاقم الفقر مع مرور الوقت.
قد ينجح الحرس الثوري بإسكات المنتفضين وإخماد مظاهراتهم، لكن نجاحه سيبقى نجاحًا مؤقتًا، بمعنى أنه سيعود مرات ومرات عندما يرشح أي مبرر، خاصة أن وضع إيران الاقتصادي المزري بسبب الحصار الاقتصادي الأمريكي المحكم جعل التضخم يتزايد، والعملة أمام العملات الصعبة تتضاءل قيمتها، وتنحدر قوتها الشرائية، أضف إلى ذلك تزايد معدلات البطالة مع مرور الوقت، هذا كله مع انتشار الفساد والرشوة التي تحولت إلى ثقافة متجذرة في الأجهزة الإدارية، لا يستحي منها لا الراشي ولا المرتشي.
ومن الواضح أن الزيادة الكبيرة في أسعار الوقود التي لجأت إليها حكومة الملالي مضطرة بعد أن بلغ السيل الزبى تبناها أكبر مستوى في السلطة، وهو الولي الفقيه. وقد نتج من كل العوامل التي ذكرت آنفًا أن حكومة الملالي تراجعت كثيرًا عن تمويل أذرعتها في المنطقة تراجعًا ملحوظًا، بالشكل الذي خلق هذه الاضطرابات في العراق ولبنان.
فغني عن القول إن ما تشهده هاتان الساحتان مرتبط ارتباطًا وثيقًا بضعف الخزانة الإيرانية. ومعروف عن أغلب رجال الدين في إيران في كل تاريخهم أنهم لا يهتمون بقيمة الإنسان قدر اهتمامهم بنشر الأيديولوجيا؛ لذلك لا يتورعون عن كبح المعارضة بالقتل، بل السحق إذا ما وجدوا أنفسهم مختنقين. وفي تقديري إن الحرس الثوري سيقوم بمجزرة في الأيام القليلة القادمة تجاه المتظاهرين غير آبهين بردود فعل المجتمع الدولي؛ فبقاء النظام هو الأولوية القصوى حتى لو جرت أنهار إيران وأوديتها بالدماء. ولعل تجربتهم مع الشعب في سوريا خير مثال على ما أقول.
لهذا كله فإنهم قد يتمكنون من قمع المظاهرات المشتعلة الآن، ولكن -وكما علمنا التاريخ- فإن ثورة الجياع التي تسعى إليها إيران بخطى حثيثة هي أخطر أنواع الثورات التي عرفها التاريخ؛ فقد تخمد هنا أو هناك برهة من الزمن، لكنها تبقى متقدة تحت الرماد، ومتى ما وجدت فرصة مواتية ثارت من جديد. أضف إلى ذلك أن هذه الثورات عندما تتسع، ويتسع غضب الناس، تخلق بالضرورة (قيادة) تستقي شرعيتها من الشارع. وقيادة كهذه ستحتضنها كثير من الدول المناوئة لإيران، وأولها أمريكا، وسوف تعمل على دعمها ماديًّا وإعلاميًّا ولوجستيًّا؛ الأمر الذي سيؤدي إلى تكتل الدول الغاضبة عليها؛ ما يجعلها حينها أقرب إلى النموذج اليوغسلافي بتقسيم إيران إلى جمهوريات عدة، ولاسيما أن إيران ليست من حيث التركيبة السكانية متجانسة؛ فهناك العرب في الجنوب، وهناك البلوش (السنة) في الشمال الشرقي، وهناك الآذاريون والأكراد في الشمال؛ فالفرس المسيطرون على مقاليد الحكم في طهران لا يتجاوزون الثلاثين في المائة من الإيرانيين.
إيران بنظام الولي الفقيه حتمًا ستتشظى إلى دول متفرقة، طال الزمان أو قصر، كما حصل ليوغسلافيا، ولاسيما أن شعوبها تفتفر إلى التجانس اللغوي والعرقي والمذهبي.
* نقلا عن “الجزيرة”