“هيكلة الشرعية”.. هذا هو العنوان الأعرض، في اتفاق المجلس الانتقالي الجنوبي والحكومة اليمنية.
وهكذا يجب أن يطرح العنوان على رأس مقال، سيحاول استقراء ما يجب أن يكون عليه الحال، بعد توقيع اتفاق بذل فيه السعوديون والإماراتيون جهودا مضنية، ليكون منعطفاً من منعطفات التاريخ السياسي لليمن، وليس لنطاق انقلاب الحوثيين فحسب، فالمسألة أعمق وأكثر دقة، من أن تؤخذ على اعتبار أنها جزء من استعادة صنعاء لحضنها العربي.
أحداث أغسطس 2019 التي شهدتها عدن، كانت فرصة نادرة لمناقشة الأزمة في واحد من أعمق تشكيلاتها المعقدة، فالقضية الجنوبية التي ظلت ممنوعة عن الإعلام، تحولت بمفاعيل الأحداث إلى أهم المداخل لاستفهام أزمات متراكمة ومُعقدة، نتيجة ترحيلها وعدم إيجاد حلول لها، ولعل أحداث عدن، رغم قسوتها، تمثل واحدة من الفرص المواتية لتفكيك الأزمات، فالقضية الجنوبية ليست طارئة بل نواة لقضية من القضايا السياسية الدولية الصعبة.
تقدمت السعودية بخطوة سريعة تمثلت بدعوة طرفي أزمة عدن للحوار السياسي، والسعوديون كعادتهم في إدارة الحوارات، اعتمدوا على تقريب وجهات النظر والخروج باتفاق الحد الممكن من التوافق، بما يضمن تصويب البوصلة باتجاه صنعاء، نجحت الرياض في استخراج ورقة سياسية وعسكرية وأمنية، ستظل محل اختبار لنوايا طرفي أزمة عدن، هذه واحدة من أهم العقبات التي طالما فشل اليمنيون في تجاوزها، فلقد تلازم الحوار بالحرب في ظاهرة يمنية خالصة، فكل حرب يسبقها حوار سياسي والشواهد تبدأ من مؤتمر خمر 1964 مروراً بوثيقة العهد والاتفاق 1994 وصولاً للمبادرة الخليجية 2011.
الصراع اليمني كُل لا يتجزأ، ووقائع السنوات الأخيرة تحديداً ما بعد انطلاق عاصفة الحزم 2015 أكدت أن اليمنيين يعانون بشكل عميق للغاية أزمة تغول الآيديولوجية بشقيها الإخواني والشيعي مع التعصب القبلي، وهو ما شكل الجزء الأكبر من انحراف البوصلة اليمنية في الاستثمار الصحيح لاستجابة السعودية لطلب الشرعية التدخل، لمساعدة اليمنيين في استعادة مشروع الانتقال السياسي، الذي بدأ كذلك سعودياً من المبادرة الخليجية، قبل أن ينزلق المشروع في مؤتمر الحوار الوطني، الذي هو بمثابة مرحلة تهيئة لما قبل الحرب كما اعتاد ذلك اليمنيون.
الإقرار بأن لا مثالية في التركيبة السياسية للمؤسسة الشرعية بكل محاورها السياسية والعسكرية، يبدو مدخلاً صحيحاً للتعامل الجاد مع إشكالية القصور السياسي والعسكري والاقتصادي، فرغم ما تم توفيره من خلال قيادة تحالف دعم الشرعية سعودياً وإماراتياً من أرضية صلبة على المستويات السياسية والعسكرية والإنسانية، فإن الإشكالية تمثلت بعد سنوات من الحرب في شقين أساسيين: الأول عسكري بعدم قدرة الجيش اليمني على تحقيق انتصارات ميدانية على مليشيات الحوثي، والشق الثاني عدم نجاح حكومتي بن دغر ومعين عبدالملك في تحويل العاصمة الجنوبية عدن إلى نموذج ناجح للتنمية الاقتصادية.
التجاذبات اليمنية الحزبية تسببت في عدم القدرة على استغلال المبادرة الخليجية بالشكل الصحيح، هذه التجاذبات وحدها خنقت الفرص المواتية، ووضعت اليمن جنوبه وشماله في ضوائق الاختناقات المستدامة، وحولت الفرص السياسية إلى ألغام قابلة للانفجارات العنيفة، مفهوم التجاذبات والصراعات المستندة إلى اعتبارات المحاصصة الحزبية والمناطقية، يجب أن تسقط تماماً وإلا فإن لا أفق لسلام في جنوب أو شمال اليمن، سواء أكان منفصلاً أو موحداً.
لم تمنح لدولة من الدول فرص سياسية كما منحت لليمنيين في تاريخهم السياسي، استعصاء الحلول لأزماتهم ظل محبوساً في تقاليدهم المتمسكة بإدارة الصراعات بطريقة مثيرة للاستغراب من قدرة على استجلاب الأزمات وتحطيم فرص التسويات السياسية، حتى ما وفرته المبادرة الخليجية من انتقال سياسي احتاجه العديد من البلدان العربية، فرط فيه اليمنيون بمحاولة اغتيال الرئيس السابق علي صالح في مسجد النهدين، مما مهد لاختناق سياسي لم يكن انقلاب الحوثي إلا الصورة الخاتمة فيه بالتفريط اليمني بفرصة استغلال نجاح الانتقال السياسي.
تحرير عدن (اكتوبر 2015) كان من الفرص التي يمكن البناء عليها، خاصة أن بعدها تحققت فرصة عززتها بتحرير مدينة المكلا (أبريل 2016) مما شكل أرضية مواتية في ما بعد نجاح مكافحة الإرهاب الذي أسهمت فيه القوات المسلحة الإماراتية باحترافية عالية، واستطاعت تأهيل القوات العسكرية والأمنية القادرة على حماية المدن، ومع ذلك لم تستطع الحكومة اليمنية توفير أقل ما يمكن من احتياجات السكان، ولم تخف قيادات عُليا تعمدها عدم توفير الاحتياجات الأساسية لسكان المحافظات الجنوبية، لمنعهم من المطالبة بالانفصال السياسي.
تراكم هذا الفشل، رغم أن السعودية والإمارات قدمتا لليمن في سياق المساعدات الإنسانية، أكثر من 15 مليار دولار كان كفيلاً بتحقيق ما أمكن من الأمن الغذائي لملايين المدنيين، تضاف إلى ذلك مراهنات لأطراف سياسية على محاور سياسية مختلفة، سواء المحور الإيراني الذي مازال الحوثيين يراهنون عليه أو المحور الإخواني وما بينهما من تجار حروب وجدوا في استمرارية الأزمة اليمنية مجالاً للتكسب بانتهازية ذاتية.
عدن وصنعاء ضحيتان لسياسات فاشلة، آن الأوان أن تتوقف، باستغلال صحيح لما تشكله الرعاية الملكية السعودية لحوار المجلس الانتقالي الجنوبي والحكومة اليمنية بهيكلة المؤسسات سياسياً وعسكرياً، حتى وإن تأجل ظرفياً استحقاق القضية الجنوبية لمصلحة كسر التدخل الإيراني شمالي اليمن، وهو ما يفرض على أبناء الشمال قبل غيرهم، إعلان اتحادهم ضد المشاريع الأخرى مهما كانت ومهما حملت سنواتهم القديمة من مواريث باعثة للصراعات.
“اتفاق الرياض” نافذة أخرى تتطلب تصميم اليمنيين شماليين أولاً وجنوبيين ثانياً، على استعادة اليمن لحضنه العربي، ثم منح الجنوبيين استحقاقاتهم السياسية العادلة، فالتنازلات الجنوبية وإن عملت على تأجيل الاستحقاق السياسي، فهي أيضاً تُجسد حجم التضحيات لاستعادة صنعاء من أفواه الإيرانيين.