لحديث عن بداية المستعمر البريطاني لجنوب الوطن الغالي سهل معرفته، وقد تكرر ذكرها مراراً.. إنما من الصعب تحديد البداية الحقيقية للثورة الشعبية عليه فقد تعددت الإرهاصات المبكرة لمواجهة المستعمر بتعدد الشخوص والكيانات والمناطق والجبـهات، وتنوعت المقاومة بكل الأشكال عسكرية وفدائية ومجتمعية عمالية ونقابية قبلية ونخبوية وتجارية، وما نريد عرضه هنا والوقوف أمامه هو تلك الضربات الموجعة والمؤلمة التي قضت مضجع المستعمرين وكسرت شوكتهم وأرغمتهم على الرحيل، إنها هجمات الفدائيين (العمليات الفدائية).
بعد أن تشعبت المواجهات مع القوات البريطانية في المناطق الريفية وامتدت إلى 12جبهة أعلنت الجبهة القومية عن فتح جبهة عدن ونقل النضال إليها، حيث أصبح للعمليات التفجيرية وطلقات الرصاص وبسالة المقاومة صدى إعلامياً عالمياً يصعب على الاستعمار البريطاني إخفاؤه عن أعين المجتمع الدولي الذي كان يراقب عن كثب ويرسل الوفود والوسطاء لتقييم الوضع واحتواء الصراع بعد أن ظل الانجليز يصرون على المكابرة وقلب الحقائق في المحافل الدولية.
لقد شكل نقل العمل العسكري إلى عدن منعطفا استراتيجياٍ لصالح الثوار، وكان عامل إرباك للقوات الأجنبية، أمكنه تخفيف الضغط على الجبهات الريفية المقاتلة وتشتيت قوات الاحتلال، الأمر الذي ساعد على مد الجبهة القومية لنشاطها النضالي إلى مختلف مناطق الجنوب وتطورت، أساليب النضال المسلح ليشهد صوراًٍ مختلفة كان أكثرها تأثيراًً العمليات الفدائية، حيث شهدت عدن أهم وأخطر الأعمال الفدائية كعملية ضرب الإذاعة البريطانية في التواهي التي اشترك فيها (30) شخصا وعملية مطارعدن.
وتبع ذلك عمليات فدائية جديدة، حيث كان منفذ العملية هو الذي يحدد الهدف بنفسه دون الرجوع للقيادة المركزية، وقد أثبتت هذه العمليات نجاعتها، وبثت الرعب في نفوس الجنود البريطانيبن خصوصاٍ بعد مقتل رئيس المخابرات البريطانية بعدن «هيري ييري» ورئيس المجلس التشريعي «آرثر تشارلس».
أول عملية فدائية
تعد عملية المطار أحد أهم وأبرز العمليات الفدائية التي أرعبت المحتل، ففي 10 ديسمبر 1963م نفذ خليفة عبدالله حسن خليفة عملية فدائية بتفجير قنبلة في مطار عدن أسفرت عن إصابة المندوب السامي البريطاني (تريفاسكس) بجروح ومصرع نائبه القائد جورج هندرسن.. كما أصيب أيضا بإصابات مختلفة 35 من المسؤولين البريطانيين وبعض وزراء حكومة الاتحاد الذين كانوا يهمون بصعود الطائرة للتوجه إلى لندن لحضور المؤتمر الدستوري الذي أرادت بريطانيا من خلاله الوصول مع حكومة الاتحاد إلى اتفاق يضمن الحفاظ على المصالح الاستراتيجية لها في عدن، وكانت هذه العملية الفدائية التي أعاقت هذا المؤتمر هي البداية التي نقلت الكفاح المسلح ضد الاستعمار البريطاني من الريف إلى المدينة.
بعد هذه العملية النوعية استمرت العمليات مستهدفة عربات وثكنات وجنود ومسؤولي الاستعمار البريطاني، ففي 7 فبراير 1964 شن الثوار هجوماً استخدموا فيه المدفع الرشاش في قصف مقر الضابط البريطاني في ردفان (لحج)، وفي 3 أبريل 1964م شنت ثمان طائرات حربية بريطانية هجوماً عدوانياً على قلعة حريب في محاولة للضغط على الجمهورية العربية اليمنية لإيقاف الهجمات الفدائية التي يشنها فدائيو الجبهة القومية من أراضيها.
وفي 28 أبريل 1964م شن مجموعة من فدائيي حرب التحرير هجوماً على القاعدة البريطانية في الحبيلين (ردفان)، وقامت طائرات بريطانية في 14 مايو 1964م بغارات ضد الثوار في قرى وسهول ردفان أدت إلى تدمير المنازل في المنطقة، كما أسقطت منشورات تحذيرية للثوار الذين أسمتهم بـ«الذئاب الحمر»، وفي 22 مايو 1964م أصاب ثوار الجبهة القومية في ردفان طائرتين بريطانيتين من نوع«هنتر» النفاثة، بعد هذه الأعمال البطولية برزت شخصيات فدائية في ميدان المعركة ولمع اسمها.
«فتاح» وأول عملية فدائية
في بداية 1964م برز اسم عبدالفتاح إسماعيل في الأوساط الثورية وعين المسؤول الأول عن العمل العسكري الفدائي والسياسي لجبهة عدن، وأصبح اسمه التنظيمي (عمر) خلفاً لفيصل عبداللطيف الذي أصبح عضو المجلس التنفيذي للجبهة القومية والمسؤول التنظيمي.
وفي يوليو 1964م بدأت أول عملية فدائية على المطار العسكري، ومن ذلك التاريخ استمر العمل الفدائي يتصاعد بحنكة قيادة «فتاح» وتضحيات رفاقه ومشاركته لهم في تنفيذ العمليات وتتبعه كل صغيرة وكبيرة وخلق عوامل مساعدة هيأت أماكن للقائه بالفدائيين للتشاور وتوزيع المهام فابتدع ملابس التخفي إذ كانت بعض العمليات الفدائية يقوم بها الفدائيون بملابس ضباط الهجرة أو الجيش وملابس أخرى وقد تنكر في ملابسه أكثر من مرة بصفته بائعاً متجولاً لتصبح بعد ذلك جبهة عدن من أوجع جبهات القتال ضد القوات البريطانية.
«عبود» الشرعبي.. مخطط العمل الفدائي
يعد مهيوب علي غالب الشرعبي الشهير بـ«عبود» المولود عام 1945م في قرية «الجبانة» عزلة «الدعيبسة» شرعب الرونة من أوائل المخططين والمهندسين للعمل الفدائي ضد المستعمر الأجنبي، نفذ وقاد عمليات فدائية كبيرة في كل مستعمرة عدن أغلبها في حي المعلا وخور مكسر، كما قام بأخطر عمليات فدائية وفي أخطر وأهم المواقع البريطانية.
ومن أبرز العمليات التي نفذها عبود تلغيم وتفجير ميدان الاتحاد في يوم السبت 11 فبراير 1967م وذلك لأنه كان مقررا أن يقام فيه الاحتفال بعيد الاتحاد الفيدرالي الثامن والذي تأسس في 11 فبراير 1959م، وحضر كل السلاطين ووزراء حكومة الاتحاد الفيدرالي والقادة والمسؤولون البريطانيون، وعند حضور المندوب السامي البريطاني وقائد القوات البريطانية في الشرق الأوسط بطائرة مروحية تم اكتشاف بان ميدان الاحتفال مزروع بالألغام فلم تهبط الطائرة وقفلت عائدة من حيث أتت الى حي التواهي وانفض الاحتفال.
وخلال هروب السلاطين والعملاء والضباط البريطانيين فتح الشهيد النار مع رفاقه ورموهم بقذائف المدفعية المختلفة الأنواع، وسقط عدد كبير من ضباط وجنود الاحتلال البريطاني وعملائهم صرعى، واستشهد من فدائيي الجبهة القومية الشهيد الدوح.وفي اليوم نفسه اشتعلت أول معارك ضارية في كل أنحاء المستعمرة عدن وانتقل الشهيد عبود الشرعبي من مدينة الاتحاد الى مدينة الشيخ عثمان وقاد المعارك بنفسه ليستشهد (عبود) في عملية فدائية نوعية، فقد قفز على سطح ناقلة جنود بريطانية والقى بقنبلة يدوية في فتحتها في الأعلى لتنفجر محدثة إصابات كبيرة بين قتلى وجرحى من الجنود البريطانيين، ومن ثم جرى خلال سوق البلدية في الشيخ عثمان ورصده جندي بريطاني كان متمركزاً مع ثلة من الجنود فوق سطح عمارة البنك القريب من مسجد النور وأطلق عليه النار ليسقط شهيد الثورة والتحرر، لتشهد عدن أكبر وأضخم جنازة في تاريخيها.
ضربات موجعة
بعد أن انتقلت المواجهات إلى مدينة عدن، وأصبحت الفرق الفدائية موحدة القيادة مرسومة الخطط تتحرك بسرعة وجد البريطانيون أنفسهم بين كماشة من النار والرصاص بفعل المقاومة الشرسة التي سادت كل أوساط الشعب، وأخذت أشكالاً عدة، كما أن الدعم العربي الذي لاقته المقاومة من الدول العربية وخصوصاً دبلوماسياً ومادياً عزز موقف المقاومة، وأجبر المستعمر على طرح السؤال الأكثر عمقاً وهو إلى متى البقاء في وجه الطوفان؟
في 28 يوليو 1966م نفذ فدائيون في حضرموت عملية قتل الكولونيل البريطاني جراي قائد جيش البادية وهو الضابط الذي نفذ عملية اغتيال المناضلة الفلسطينية رجاء أبو عماشة عند محاولتها رفع العلم الفلسطيني مكان العلم البريطاني أثناء فترة الانتداب البريطاني لفلسطين.
وفي 22 ابريل 1966 أسقط ثوار جيش التحرير طائرة بريطانية أثناء قيامها بعملية استطلاعية لمواقع الثوار في الضالع والشعيب، فأرسلت السلطات الاستعمارية للغاية نفسها طائرة أخرى، فكان مصيرها كسابقتها، ما جعل القوة الاستعمارية وأعوانها تشدد من قصفها للقرى وتنكل بالمواطنين فيها.
في 31 ديسمبر 1966 قام ثوار جيش التحرير بهجوم مباغت على القاعدة البريطانية في الضالع، أدى إلى مقتل ثلاثة جنود وإصابة ثمانية آخرين، وتدمير ثلاث سيارات «لاند روفر» وإحراق عدد من الخيام بما فيها من مؤن ومعدات. في غضون ذلك وحد ثوار الضالع وردفان والشعيب هجماتهم على القوات الاستعمارية وأعوانها من خلال تشكيل فرقة قتالية مشتركة أسموها «الفرقة المتجولة» بقيادة علي شايع هادي.
عام الاستبسال والفداء
ويعتبر الثوار وكثير من الباحثين أن عام 1967م هو عام الفداء؛ حيث قويت شوكة المقاومة اليمنية واشتدت سواعدها النضالية لتبطش بالاستعمار البريطاني واستولت على كافة المناطق اليمنية وألحقت ذلك بخوض معارك عنيفة مع جنود الحكومة البريطانية والتي ذاقت شر الهزيمة.
ففي 3 أبريل 1967 نفذ فدائيو حرب التحرير عدة عمليات عسكرية ناجحة ضد مواقع وتجمعات المستعمر البريطاني في مدينة الشيخ عثمان بعدن، كبدوا خلالها القوات الاستعمارية خسائر فادحة في الأرواح والعتاد، وسقط خلالها عدد من الشهداء في صفوف الفدائيين، كما تمكن الفدائيون في 20 يونيو 1967 من السيطرة على مدينة كريتر لمدة أسبوعين وتحت تأثير هذه الضربات الموجعة والقاسية فوجئت بريطانيا بتلقي ضربة قوية أخرى أسقطتها أرضاً وذلك عندما اشتدت حركة التظاهرات والاضطرابات والإضرابات السياسية لتتوحد جهود أبناء الشعب المسلحة والسلمية.
وما بين الطلقة الأولى التي تفجرت شرارتها في الرابع عشر من أكتوبر 1962م من على قمم جبال ردفان على يد شهيد أكتوبر المناضل راجح غالب بن لبوزة.. وبين يوم إعلان الاستقلال الثلاثين من نوفمبر 1967م مراحل نضالية كبيرة وملاحم أسطورية، وقدم أبناء الجنوب اليمني أعظم التضحيات في سبيل الخلاص من جحيم المستعمر البريطاني بمشاركة مختلف الأطياف والتوجهات والتكوينات من الفعاليات الطلابية والنسائية والنقابية في مسيرة النضال من خلال المظاهرات والإضراب والكفاح المسلح.. تكللت في العام 1967م بإعلان استقلال الجنوب اليمني وتحرره بخروج آخر جندي بريطاني من مستعمرة عدن، وكان الثلاثون من نوفمبر هو يوم الحرية وعيد الجلاء والاستقلال، لتعم الفرحة كل قرى ومدن اليمن شمالا وجنوبا، وتثمر دماء الشهداء والفدائيين نصراً وعزاً وحرية وكرامة.
وبذلك يكون اليمنيون قد نحتوا في سفر التاريخ الثوري اليمني يوما خالدا هو يوم الـ14 من أكتوبر الخالد الذي نحتفي اليوم بذكراه السادسة والخمسين، والذي ينبغي ان تظل ذكراه نبراساً تقتدي به كل الأجيال اليمنية في الحاضر والمستقبل، ليكونوا على بينة ان الحماس الثوري والتمرد على الظلم وانتزاع الحرية والكرامة لها جذورها ومنبتها العريق والأصيل.