مشهدان متطابقان تماماً، فالقاهرة بامتدادها التاريخي وإرثها الحضاري، خضعت لعام واحد لتأثير الحكم الإخواني، بعد أن ضربت رياح فوضى الخريف العربي، أركان عدد من العواصم العربية، وبينها القاهرة التي تأثرت بتلك العواصف الهوجاء، فاختلت القواعد وتسلل الإخوان لسلطة الحكم في مصر، لتدخل في دوامة استثنائية في تاريخها، انتهت بنهوض الشعب المصري في 30 يونيو 2013 ليسقط فوضى الإخوان، ويعلن مرحلة اجتثاثهم من جذورهم.
المصريون يمتلكون من الإرث، ما يحصن دولتهم المصرية، عبر رصيد هائل، صنعوا به نواة دولتهم الوطنية، القوة في الدولة المصرية، ليست كما يتصورها البعض على أنها تتمثل في عقيدة الجيش المصري، فهذه نظرة قاصرة عن مضمون القوة للدولة المصرية، التي تشمل تجربة حضارية تعمقت في الشعب المصري، عبر التنوع الذي امتاز به التاريخ المصري، وانعكس على المراحل السياسية التي مرت على مصر، وصولاً إلى ما بعد ثورة 1952 التي هي جزء لا يتجزأ من الدولة المصرية الحديثة، بعلومها وفنونها وقوتها العسكرية.
يونيو 2013 ليس مجرد ثورة مصرية، بل مفصل تاريخي حدده الشعب المصري، بين اللادولة والدولة، ولأن الامتداد المصري السياسي كان قوياً، كانت التأثيرات بحجم ذلك الامتداد، وهو ما انعكس في متغيرات سياسية على مستوى المنطقة، ومنها تشكل المحاور في الشرق الأوسط بمرجعيات محددة، بين دعم الفوضى عبر مشاريع الإسلام السياسي، وتدعيم الدولة الوطنية في الوطن العربي، وما بين النقيضين كان لابد أن تتشكل قوى الدعم للدولة الوطنية، عبر الدور السعودي والإماراتي كحِلف تحمَّل مسؤولية العبور من مرحلة الصراع المحتدم، لتجنيب المنطقة خطر الانزلاق في الاحتراب، الذي وقع فيه عدد من الدول العربية، كاليمن وليبيا كنموذج للدول الفاشلة، والتي انزلقت في فوضى الإسلام السياسي.
محور الشر القطري التركي الإيراني، تعمَّد تبادل الأدوار في التعامل مع ملفات المنطقة، استراتيجية يمكن استقراؤها في العقدين الأخيرين، وإن كانت مصر تمثل نموذجاً مهماً لقراءة مسار تبادل الأدوار، الذي ظلت قطر لاعباً ثابتاً فيه، بما في ذلك دورها في إسقاط العاصمة العراقية بغداد ـ أبريل 2013 ـ عبر الأدوات الترويجية ذاتها، ببث محتوى إعلامي يسهم في تمرير الهزيمة النفسية، وهو ما تم البناء عليه عام 2011 بشكل أوسع لتمرير الأجندة الإخوانية.
فكرة إسقاط العواصم، عبر الدفع الإعلامي وركوب موجات عالية من الأصوات المحتقنة بالطبع، ليست طارئة بل أسلوب تمرَّس عليه الإعلام القطري والتركي وحتى الإيراني، وكان على المصريين، ليس فقط مجرد إسقاط ذلك الاستهداف، بل تثبيت قاعدة أن لا خيار للمصريين غير التمسك بالدولة الوطنية، وهو ما حدث رغم التحشيد الإعلامي المضاد، ورغم الحديث السافر للرئيس التركي رجب طيب أردوغان من منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة.
قبل شهرين من المشهد المصري، كان المشهد في جنوب الجزيرة العربية كذلك، عندما شنت مليشيات حزب التجمع اليمني للإصلاح هجوماً عسكرياً لإسقاط مدينة عدن، التي كانت قوات الحزام الأمني التابعة للمجلس الانتقالي الجنوبي، قد نجحت في تطهيرها من معسكرات ذراع التنظيم الدولي في اليمن، ورغم ضبابية المشهد العدني نظراً للارتباك السياسي في التعامل مع القضية الجنوبية بأبعادها، فإن الحالة الجنوبية تتوافق تماماً مع الحالة المصرية.
المستعمرة البريطانية عدن وبقية الجغرافيا الجنوبية المشكلة من مشيخات وسلطنات كانت وعلى مدى أكثر من 129 عاماً خاضعة للحكم البريطاني، مذهبياً ظلت المدرسة الحضرمية الصوفية سائدة منذ القرن الهجري الأول، سياسياً وما بعد الاستقلال الأول في الثلاثين من نوفمبر 1967 تمسك الجنوب بثوابت لم تطرأ عليها متغيرات، فالليبرالية الحاكمة وإن كانت يسارية، إلا أنها شكلت مساراً رسَّخ الانتماء الوطني، وهذا ما يمكن الاستدلال عليه منذ نشأة الحراك الجنوبي في 2007.
عمق الأزمة اليمنية في شأن القضية الجنوبية، يظل عدم استيعاب أن هوة واسعة بين أن الجنوب ككتلة جغرافية تعاقبت عليها تجارب سياسية في أكثر من 170 عاماً، حملت وجهاً سياسياً واحداً، لم يكن فيه للإسلام السياسي تأثير إطلاقاً، وكانت المرجعيات القانونية تستمد قوتها من الحكم المدني بتأثير الاستعمار البريطاني، لذلك حدث تصادم مباشر بعد الوحدة اليمنية عام 1990 أنتج حرب 1994 كنتيجة لصراع الدولة واللادولة، وهي تلك الدولة الممتزجة قبلياً ومذهبياً شمالي اليمن.
الجنوبيون قرروا منذ البداية، الالتزام بمقررات دول المقاطعة العربية (السعودية والإمارات ومصر والبحرين) بحظر تنظيم الإخوان المسلمين وغيره من كيانات الإسلام السياسي، وهذا يعزز الرغبة في رفضهم اللادولة أو الدولة المتأسلمة، لذلك وجدوا قاعدة شعبية عريضة في تأييد إزاحة معسكرات حزب الإصلاح من عاصمتهم عدن، رغم أن الإعلام القطري ومعه المخدوع، حاول تمرير أجندة خطة إسقاط العواصم، كما فعلها مع بغداد وغيرها من العواصم التي اهتزت برياح الخريف العربي.
الاحتفاء العربي، بتجاوز المصريين لاختبار كانوا يحتاجونه، لتأكيد خيارهم بالتمسك بالدولة الوطنية، لم يجده الجنوبيين بعد أن اختاروا ما اختاره المصريون، فالحشود التي ملأت الشوارع المصرية، تطابق تلك الحشود التي ملأت شوارع عدن والمكلا وسقطرى، المؤيدة لإفشال حكم الإخوان في الجنوب، مع فارق عدد السكان، ويظل عدم إنصاف القضية الجنوبية والتعامل معها بأبعادها السياسية وعمقها، يحمل ازدواجية غير مبررة، فالحشود في الجانبين، خرجت رفضاً للإخوان وغدرهم وطعن خناجرهم، لكن هناك مسؤولية والتزام قومي، يجب استدراكهما في تعامل كهذا، مع قضية واحدة وإن كانت لها أبعادها السياسية، التي لا تروق لبعض المأزومين أو الغارقين في أتون الأيديولوجيات البائدة، أو ما يجب أن تكون بائدة.