هذه المرة فعلها عبد الرحمن الأبنودي ورحل…
“الموت مجرد سفر … لا شوك… ولا زعابيب… ولا عفر”.. هكذا كان ينظر للموت الذى راوغه مرات عدة في صراعه الطويل مع المرض.
خلال سنوات عمره التي تجاوزت العقود السبعة سجل حافل بالانتصارات والانكسارات، وديوانه الشعري شاهد على عصره بحلوه ومره.. حين غادر “صهد الجنوب” أواخر خمسينيات القرن الماضي موليا وجهه شطر القاهرة كان قد حسم اختياراته الشعرية والإنسانية، فهو ابن الشيخ الذى حفظ القرآن ودرس اللغة العربية وسبر أغوارها، لكن إبداعه سيكون بلغة “الناس في بلادي”.
والناس في بلاد الأبنودي تواقون للحرية والعدل والمساواة ثلاثية حفظها قلب الأبنودي وعقله فترجمها شعرا: “الشعر يا ابن عمى مش عربي وفصيح …اللي يمس القلب هو الشعر بصحيح”.
أحب الأبنودي “حراجي القط” فنقل لنا خطاباته لزوجته “فاطنة” مسجلا لحظات التحول التاريخية في حياة الفتى الأسمر الذى شارك في بناء السد العالي، وملاحم النضال للعمال والفلاحين ترجمها الأبنودي في بساطة تشبه حياتهم وحياته أيضا: “بيتنا الصغير الأخضراني أبو الستاير برتقاني”.
وحين قفز بجواد الشعر إلى ساحات الغناء شق لنفسه مجرى جديدا وأدخل في قاموس الغناء مفردات خاصة حفظتها الذاكرة العربية: “تحت السجر يا وهيبة يا ما كلنا البرتقان”.
ولم يشغله رسم لوحاته الشعرية على إيقاع الموسيقى عن أوجاع وطنه الكبير فأعلن في عز النكسة “أبدا بلدنا للنهار بتحب موال النهار لما يعدى في الدروب ويغنى أدام كل دار”، وأقسم متحديا: “ابنك يا قدس زي المسيح لازم يعود”.
وظل الأبنودي قابضا على جمر الثورة والنضال من أجل قيم الحرية والعدل والمساواة وحين انطلقت ثورة المصريين في 25 يناير أعادت له روحه الشعرية فأعلن انحيازه دون مواربة ليضخ في شرايين الشعر مفردات تليق بعظمة الحدث.
رفض الأبنودى التسوية مع إسرائيل وحيا أطفال الحجارة، حين نعى صديقه فنان الكاريكاتير ناجى العلي:
“متنسينيش ياما ف عدودة
عدودة من أقدم خيوط سودا في توب الحزن
لا تولولي فيها ولا تهللي
وحطي فيها اسم واحد مات
كان صاحبي يامة …واسمه ناجى العلي”
رحل الأبنودي فمن ذا الذي سيطلب وضع اسمه في عدودة من أقدم خيوط سودا في توب الحزن؟
لكن أمثال الأبنودي لا يرحلون بل يسجلون حضورا دائما وإن غيبهم الموت…
