كلما نظرت للساعة تذكرت رائعة بلفقيه وهو يتحشرج بالوقت ويتوجع بضجر المواعيد، وقد “ضاع الهوى الذي بناه في ظرف ساعة”
و في أول اكتحالي بعدن التي بدت من نافذة الطائرة بيضاء كمسقط القديمة ، وسمراء كجبالها ، وزرقاء كبحر عمان استعدت بعفوية الشوق رائعة بلفقيه :
“ياطائرة طيري على بندر عدن زاد الهوى وزاد النوى وزاد الشجن”.
وحين عدت من اليمن “السعيد” بعد الللقاء برموزها الكبار من عفاش إلى البيض إلى الأحمر إلى العطاس ، وانتهاء برشفة صافية من مأرب كان اليمن يغمد لتوه خنجره بعد تجاذبات على الوحدة ، فلم أجد عنوانا لمقالي المنشور في جريدة عمان أفضل من أغنية بلفقيه
“من يشبهك من يا يمن” ؟.
وحين دخلت دار الحجر في صنعاء و كان “البحري ينسنس على جنوبي وشمالي” سرحت النظر صوب وادي ظهر الذي شعشع عنبا فتدحرجتْ في الأسماع تساؤلات بلفقيه
“يا زارعين العنب ما با تبيعونه”
وطوال أكثر من نصف قرن كان أبناء الجزيرة والخليج يضعون بلفقيه موضع حليم في وجدان المصريين.
وكانت أغنياته “مسجات” الأيام الخوالي التي يتبادلها العشاق والموجوعون والعابرون بين الآلام والأحزان .
وكان المسافر منهم لا يسافر إلا ويدندن :
“بشيل حبك معي وألقيه زادي ومرافقي في السفر
وباتلذذ بذكرك في بلادي
وفي مقيلي والسمر”.
وإذا ما واسى مجروح مجروحا ردد بتلقائية :
“بدري عليك الهوى
ذا جرح ما له دواء
عادك إلا صغير”.
وكلما التهبت أسلاك الهواتف واشتعل الجمر في الأثير كان بلفقيه هو الحاضر الذي يبرر تسويف الطرفين :
“متى أنا شوفك
يا كامل وصوفك
متى متى قل لي
باتسمح ظروفك” ؟.
خرج أبو بكر السالم بلفقيه ذات فجر حضرمي من سجادة أبيه إلى دفاتر المحضار، ومن ظل العمامة إلى صبابات المقيل اليمني.
وتيمم شطر لبنان ومعه القات والبن والخنجر المعقوف.
وفي ست المدن بيروت زاوج بلفقيه بين الوتر والأورج ، والدف والأكورديون ، فكان هجينه اللحني مزيجا رائعا بين خفة حركة البرع ورشاقة الدبكة اللبنانية ، وبين التباريح الحضرمية واليافعية والصنعانية وعذابات الميجنا و العتابا.
وتداخلت النكهات في أغانيه بين فوران دلال البن في عدن وأكواب القهوة في الفردان.
وحين يهجع عود أبي أصيل عن النشيج تستشعر بيوت تريم الوحشة ، وقصر الرناد يغلق مصاريع أبوابه فكندة تودع ملكها ، وشجر الأحقاف يبكي غريده ، وحضرموت تخسر تمثيلها الدبلوماسي الممتد من رملة سقطرى إلى رمال الصحراء الكبرى في نواكشوط ، والغناء العربي يشيع الموصلي وزرياب.
ولا أدري ما إذا كنا نودع بلفقيه أم نودع اليمن ، الذي لم تعد الطائرات تطير إليه ولا تحلق فوق سماء عدن مع الهوى والنوى والشجن ، بل تطير إليه قاذفات تحارب الهوى ، وتضاعف ألم النوى ، وتحترب مع الشجن.
ولا أجد خاتمة لبلفقيه وهو يسافر بعيدا من تذكيره :
“وانت عسى عاد با تذكر ودادي
وإن كنت تناسيت
يا ما ناس جم مثلك تناسوا (الوداد).