منذ بداية الثورة السورية، وُلدت من بين الأنقاض قوة لا تحمل سلاحاً، بل تحمل الأمل “الخوذ البيضاء” منظمة الدفاع المدني التطوعية التي تأسست رسمياً في عام 2014، ما زالت حتى يومنا هذا تقف صامدة كطوق نجاة للأرواح المتعبة والمنازل المدمرة، أكثر من ثلاثة آلاف متطوع سوري مدني يشكلون هذه المنظمة، يعملون بلا توقف، متحدين كل العقبات لإنقاذ المتضررين من أهوال الحرب.
الخوذ البيضاء هي منظمة دفاع مدنية تطوعية تعمل ضمن المناطق المحررة في سوريا، تأسست عام 2013، تتألف من ثلاثة آلاف متطوع سوري مدني، وتهدف إلى إغاثة المتضررين جراء الحرب الأهلية السورية، تعتبر المنظمة نفسها حيادية وغير منحازة، ولا تتعهد بالولاء لأي حزب أو جماعة سياسية.
عند كل فجيعة، يستيقظ العالم على الأخبار المؤلمة القادمة من سوريا، تكون “الخوذ البيضاء” هناك، تحمل بيديها قدرة على زرع الأمل بين الأنقاض المشهد يتكرر في كل مرة مبانٍ منهارة، وصرخات استغاثة، وغبار يتصاعد في الهواء، في خضم هذا الدمار، ترى أفراد الدفاع المدني وهم يرتدون خوذهم البيضاء الناصعة كرمز للمقاومة الإنسانية، إنهم يسابقون الزمن، يتسلقون الأنقاض، يبحثون عن صوت، عن نفس، عن حياة وسط الدمار.
رائحة الغبار تختلط بأصوات المعدن المتهشم، أيديهم المتعبة تمسك بقطع من الخرسانة بينما يواصلون البحث بلا كلل، في كل مرة يجدون فيها ناجياً، تشعر أن نبضهم يرتفع قليلًا، لحظة يلتقي فيها الألم بالأمل الصمت الذي يتبع كل عملية إنقاذ يحكي قصة النضال المستمر من أجل الحياة، قصة الكرامة التي يصر هؤلاء المتطوعون على حمايتها.
في السادس من مارس عام 2023، أهزت الأرض تركيا وسوريا بزلزال مدمر، تجمدت اللحظات وامتلأ الهواء بصوت الصرخات وأنين الفقد، وسط هذه الكارثة التي قلبت حياة آلاف العائلات رأسًا على عقب، وقف أبطال “الخوذ البيضاء” في مواجهة الفاجعة، ليعيدوا الأمل إلى من فقد كل شيء.
لمدة خمسة عشر يومًا، عمل الدفاع المدني دون كلل أو ملل، بقلوب متعبة وأيادٍ مثقلة بالغبار والحطام، كانت الأقدام التي تحركت بين الأنقاض وكأنها تسابق الزمن، تبحث عن أي إشارة للحياة، عن صوت خافت أو نفس مضطرب، كانت تلك الأيام كأنها سنوات، مليئة بالألم والأمل المختلطين، في كل مرة كانوا يخرجون جسدًا حيًا من تحت الركام، كانت ترتفع الأيادي إلى السماء بالشكر، رغم الأوجاع التي تملأ المكان.
أصوات الآلات التي تشق الطريق بين الحطام كانت كأنها نشيد يروي قصة الإصرار، هؤلاء الرجال والنساء، الذين تجاوزوا التعب والألم، لم يكونوا فقط يبحثون عن المفقودين، بل كانوا يحملون على أكتافهم أثقال قلوب العالم أجمع، ويرسمون بإرادتهم أملًا جديدًا لكل من فقد العزاء في تلك الفاجعة.
خمسة عشر يومًا من العمل المتواصل، الليل والنهار أصبحا واحدًا، والشمس والقمر شهود على قوة الإرادة التي لم تعرف التراجع، كانت تلك اللحظات تعبيرًا صادقًا عن معنى الإنسانية، حين يتخلى المرء عن راحته وأمانه ليبحث عن حياة أخرى، ليعيد لقلوب محطمة بريق الأمل من جديد.
لن ينسى التاريخ هذه الأيام، ولن تنسى قلوب الناجين تلك الأيدي التي امتدت إليهم من بين الأنقاض، لتحملهم من ظلام المأساة إلى نور الحياة من جديد.
أيديهم المغبرة تشق طريقها تحت الأحجار الثقيلة، باحثة عن نبض يخبئه الركام، وفي كل مرة ينقذون فيها طفلًا أو امرأة أو رجلًا من تحت الأنقاض، يشعرون بأنهم أعادوا قطعة من الروح إلى الوطن الممزق، هذا المكان الذي لم يعرف سوى الألم، يتحول بفضلهم إلى رمز للكرامة والإنسانية، “الخوذ البيضاء” نبض قلب جماعي يصارع للبقاء، يسعى لترميم ما تهدمه الحروب، ولإحياء الأمل من جديد.