لا تكاد أخبار السيول والفيضانات التي تضرب السودان منذ أسابيع تجد لها مكاناً في وسائل الإعلام العربية، بل وحتى على منصات التواصل الاجتماعي وجودها ضئيل جداً، بل هو مقتصر على بعض الأشخاص، وليس صفحات الشخصيات العامة، رغم أن حصيلة فيضان نهر النيل هي حتى الآن أكثر من مئة ضحية وعشرات آلاف المشردين، الذين فقدوا منازلهم نتيجة طوفان مياه النيل عليها، في بلد توصف بناه التحتية بالضعيفة.
في وسائل الإعلام العربية والناطقة بالعربي قبل أيام احتل خبر اتفاق السلام الذي وقعته يوم الاثنين الماضي الحكومة في مدينة جوبا، عاصمة جنوب السودان، مع تحالف الجبهة الثورية، الذي يضم مجموعة من فصائل التمرد الرئيسية في دارفور ومنطقتي النيل الازرق وجنوب كردفان، وسط آمال بأن يكون الاتفاق مدخلا لمرحلة جديدة من الاستقرار في السودان.
رغم غياب عدة أطراف فاعلة من المتمردين عن الاتفاق إلا أنه مهم وله انعكاسات كبيرة على الواقع في السودان، الذي يعيش حالياً مرحلة مخاض سياسي، بعد الإطاحة العام الماضي بالرئيس السابق عمر حسن البشير الذي حكم السودان بالحديد والنار لمدة تزيد عن ثلاثين سنة، إطاحة جاءت إثر عدة أشهر من الاحتجاجات والانتفاضات المدنية.
ولكن أن يطغى هذا الخبر على خبر مقتل العشرات وتشريد عشرات الآلاف فهذا لعمري كارثة حقيقية في أولويات العمل الصحفي، الذي تقول كل أدبياته: إن الإنسان هو أولاً، ومنه يجب أن ينطلق الخبر وإليه يعود، فما بالك بفيضان النيل الأخير الذي تقول الإحصائيات إنه غير مسبوق، حيث إن 20 ألف منزل قد انهار بشكل كلي نتيجة قوة الفيضانات، و40 ألف منزل بشكل جزئي، فيما غمرت المياه عشرات القرى بشكل كامل.
الشهر الماضي شهدنا انفجار مرفأ بيروت، وكان المشهد مهولاً أشبه بانفجار نووي، هرع على إثره إلى لبنان رؤساء دول ووزراء ومسؤولون كبار، ومنظمات إغاثية عربية ودولية، وجرى له جمع مساعدات، وهذا شيء جميل ويجب أن يحصل في لبنان وغيره، ولكن لماذا تسلط الأضواء على مكان ويتم التعتيم والتجاهل على أمكنة أخرى؟ أليس كل المتضررين بشراً ويجري في عروقهم دم من لون واحد، رغم اختلاف ألسنتهم وألوانهم.
يعرف السوريون أن السودان هي آخر البلاد التي فرضت عليهم تأشيرة دخول، وظلوا طوال سنوات حتى عام 2019 يدخلونها مباشرة، وهناك جالية سورية كبيرة في الخرطوم هربت من جحيم الحرب، وبطش النظام وبراميله المتفجرة، لتجد هناك شعباً طيباً مضيافاً مرحباً، مع العلم أن فرض الفيزا على السوريين، تفرضه الدول الكبيرة على الدول الصغرى كوسيلة لمكافحة الهجرة الغير شرعية.
هذه الجالية السورية أسست شركات تجارية ومطاعم ومصانع يعمل فيها سوريون وسودانيون. كما تم في مرحلة سابقة منح الجنسية السودانية لمئات السوريين، كنوع من التخفيف عنهم في محنتهم التي يعانونها، وأحد أهم جوانبها هو” جواز السفر”.
وحتى بعد فرض الفيزا فإن الحصول على التأشيرة سهل جداً، وأعرف العديد من السوريين الذين لا يجدون مكاناً يرون أهلهم فيه سوى السودان، فيذهبون لهناك ويعودون بكل يسر وترحاب.
وكل من عاشر السودانيين يعرف أنهم دمثو الأخلاق طيبو القلب، انعكست سمرة وجوههم بياضاً على قلوبهم ونواياهم. وهنا في المغترب القسري يجد السوري أن السوداني هو خير معين له، فهو محب ومثقف وذو “عين شبعانة”، رغم فقره وضيق حاله.
السودان الذي فتح صدره مرحباً بالسوريين، لا بواكي له، ولا اهتمام إعلامي بمأساته الإنسانية، ولكنه له حق علينا نحن السوريين، حتى وإن كنا لا نملك له سوى الدعاء، ولا نستطيع أن نتضامن مع أهله سوى بأضعف الإيمان، وهذا هو أقل الواجب من الكرام على الكرام.