لا يكاد يمر يوم دون أن يتصل بي أحد الأصدقاء مستفسراً عن وضعنا هنا في فرنسا، إلا قليل وكاد الأصدقاء يسألونني إن كنا نُساط بالسياط أم لا! وما ذلك إلا نتيجة التهويل الإعلامي الذي تمارسه القنوات التلفزيونية العربية، كعادتها، وكل من يتابعها يشعر أن لديه كمية من المشاعر السلبية المتناقضة، ليس الكره إلا أحدها.
ولا يمكن بحال من الأحوال نسيان التحريض الكبير الذي جرى ويجري على وسائل التواصل الاجتماعي العربي، فقصة شجار في باريس بين عدة سيدات ستصبح اعتداءً عنصرياً، رغم ما قيل من عبارات عنصرية أثناءه، ولكنه يبقى شجاراً، والمعتدى عليهما سيأخذان حقهما حسب القانون الذي يتساوى تحته الجميع. والاعتداء العنصري في مدينة أونجيه على المدرس الأردني وأخته ضُرب بألف، فضلاً عن عشرات الفيديوهات التي تم بثها على وسائل التواصل الاجتماعي، بعضها قديم بُث فيه الروح من جديد، وبعضها من خارج فرنسا، ولكن جماهير التواصل الاجتماعي التي كثير منها صفحات وهمية وذباب الكتروني لا تحتاج للتأكد من صحة فيديو، لطالما أنه يؤدي إلى النتيجة التي يرجوها أشرار العالم ألا وهي الكره. وقد يكون إبراهيم العيساوي منفذ الهجوم على كنيسة مدينة نيس أحد النتائج لوسائل التواصل الاجتماعي والإعلام المرئي العربي الذي يُدفع عليه مبالغ طائلة.
الوضع هنا في فرنسا بكل بساطة لم يتغير شيئاً عما قبل تصريحات الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون وما تبعها من أعمال إرهابية، لا أدري إن كان يمكن تصنيفها كسبب أو كنتيجة.
تصريحات تعوزها الحنكة السياسية وهي دغدغة لمشاعر اليمين المتطرف في انتخابات ما عادت بعيدة، تلقفتها وسائل إعلام عربية وناطقة بالعربي كطوف نجاة في ظل خلافات سياسية بين فرنسا وتركيا على أكثر من ملف، ليتبين لكل متمعن أن السبب الحقيقي لكل هذه الهمروجة سياسي بالدرجة الأولى، ويهدف بالدرجة الأولى إلى تجييش الجماهير عبر العاطفة الدينية.
بكل الأحوال في البلاد التي يسود فيها القانون لا يأخذ أحدٌ بجريرة أحد، وهذه الأعمال الإرهابية، مع الأسف، متكررة في فرنسا منذ أعوام، ورغم ذلك لم يتوقف استقبال فرنسا للاجئين، الذين ينحدر أغلبهم من بلدان عربية ومسلمة، ونحن لسنا مدانين كي نشعر بأي ذنب، بل نحن من ضحايا هؤلاء الإرهابيين، فعدد الذين قتلوهم من العرب والمسلمين يفوق بأضعاف أعداد الغربيين.
لكن مثل هذه الهجمات سترفع على المدى الطويل من رصيد اليمين المتطرف العنصري والكاره لكل ما هو أجنبي، وبالأخص العرب والمسلمين المقيمين في أوروبا عموماً وفرنسا خصوصاً، الذين سيزداد الضغط عليهم حتى يشعروا وكأنهم مدانون، وما يعقب ذلك من الخجل من الهوية أو حتى النكران لها، وجلد الذات وكرهها، وما يتبعه من كره للآخر، فكاره نفسه لا يمكن بحال من الأحوال أن يحب الآخرين.
ملايين العرب والمسلمين الذين يعيشون في أوروبا في ظل حقوق الإنسان، والكثير من المزايا الأخرى، بعد ما ضاقت عليهم بلادهم بما رحبت، سيصبح مصيرهم في مهب الريح لو تواصلت مثل هذه الأعمال، وقبلها التحريض الإعلامي العربي، وما يوازيه من تحريض عنصري أوروبي باتت ترتفع عقيرته.
ورغم أن فرنسا لديها منظومة إعلامية كبيرة ناطقة بالعربي، ولكن ماكرون فضل الظهور على وسيلة الإعلام العربية الأكبر والأكثر انتشاراً ” الجزيرة”، التي يشير لها البعض بأصابع الاتهام محمّلينها جزءً من المسؤولية عن التوتر الحاصل، في لقاء حاول من خلاله تفسير بعض تصريحاته التي يقول إنها فهمت “بطريقة خاطئة”، وفي الثنايا هي رجوع خطوة إلى الوراء، وربما انحناء أمام عاصفة المقاطعات الاقتصادية التي باتت دعواتها تغزو الأسواق العربية، خصوصاً مع الإخراج النهائي للمقابلة التي تشبه مقابلات بشار الأسد على تلفزيونات المنار أو الميادين، حيث هناك أسئلة معدة سلفاً بالتوافق بين الطرفين، وما على الضيف الذي قد جهز نفسه مسبقاً سوى الإجابة، فيما المحاوِر يستمع فرحاً بنيله شرف إجراء اللقاء المتلفز دوناً عن زملائه الصحفيين الآخرين، ليبدو وكأن الضيف هو الذي طلب المقابلة ليتكلم شيئاً ما وليس العكس.
بكل الأحوال هذا اللقاء من شأنه تبريد الأجواء الساخنة، خصوصاً للاجئين الفارين من جحيم الاستبداد والتكفير، وما يرافقهما من اعتقال أو قتل أو تشريد. لاجئون رموا بأنفسهم في بحور المخاطر كي يصلوا إلى بر الأمان حتى ينعموا ببعض الاستقرار المفقود في بلادهم، ويعيشوا بحرية وكرامة، ويتعايشوا مع الجميع، دون أن يزج بهم في حروب ظاهرها الدفاع عن الرسول الكريم، وباطنها سياسات دول ومصالحها، ولا ناقة للاجئين بها ولا جمل، ولن يكونوا سوى ضحاياها.