العميد الركن مصطفى الشيخ – تفاصيل برس
دعونا نحن الشعوب العربية والإسلامية نلقي بالعواطف جانباً لنرى المشهد الدولي والإقليمي على حقيقته، وأدرك جيداً أن ما أكتبه يصدم العقل العربي والإسلامي، ذلك لأن العقل العربي والإسلامي يعمل وفق مرتكزاته القياسية المعطوبة، ولهذا فإن النتائج التي ينتجها هذا العقل المضروب ومنذ قرون ليست إلا مزيداً من الهزائم والتراجع وخيبات فوق خيبات وفق مبرر انتزعه ولا يستطيع أن ينزعه، إنها مؤامرة كونية أو إقليمية أو يهودية أو مسيحية أو فارسية وكم أو بقيت دون ذكرها، ورغم ذلك فإن هذا العقل يرفض الخروج مما اعتاد عليه.
الإحراج الأول:
إيران قامت بالردّ ليس لأجل الردّ ثأراً لمحورها الذي يحطمه ويمزق كينونته نتنياهو، بل لأنها سقطت وانهارت صورتها في من وثق فيها وتعالت طلبات الطلاق من أتباعها، وهي تدرك يقيناً أنها على سلَّم أوليات الاستهداف لا محالة من إسرائيل، والمسألة فقط مسألة أن تنتهي إسرائيل من قطع أذرعها تباعاً، فإن ردّت {والرد خلَّبي أو حقيقي } فالنتيجة واحدة، هذا هو الوقوف في مرحلة التردد وفقدان التوازن، ومن خلق المناخ المناسب هي إسرائيل.
الإحراج الثاني:
حزب الله الولد المدلل لإيران حينما اندعلت حرب غزة حاول أن يخرج من الإحراج الذي وقع فيه المحور كله حينما أطلق شعار وحدة الساحات، ووجد نفسه أنه إن لم يشارك فقد سقط في أعين جمهوره علاوة عن الشعوب العربية والذي طالما صدّع رؤوس الأمة بتحرير القدس، وشعار الشيطان الأكبر، فجأة وجد في الموقف الحرج، واختار أن يتخفى تحت إطلاق صواريخ كاتيوشا على العمود، وأعتقد أن ما يجري في غزة سينتهي وتتدخل فرنسا الأب الروحي لهذا المحور ونهج أوباما الذي أوصل إسرائيل لمرحلة أن حسن نصر الله في كل خطاب له يتحدى إسرائيل ويتوعد بتحرير القدس معتقداً أن حرب 2006 هي قمة المجد والعلو على إسرائيل، وهو يعلم في أعماق نفسه أنه دجّال يريدُ أن يسِّوق مشروع الولي الفقيه بعباءة القضية الفلسطينية، لكنه خسر الرهان من موقف أدخله فيه نتنياهو وهو الوقوف في منطقة الحرج، وأن أي تصرُّف منه ولو ضرب العمود سيكون سبباً لتدميره، وهذا ما حصل.
الإحراج الثالث:
هو تحالف حماس مع ايران في سابقة لم تحدث في التاريخ العربي والإسلامي، واستطاعت إيران أن تخدعهم بشعار تحرير القدس، معتقدين أن الدول العربية قد تخلت عنهم وهم متحالفين تحالف الضرورة، وهذا الاستنتاج أكبر خطأ في التاريخ القديم والحديث وهو بمثابة الذنب الذي لا يُغفر، سبب كل هذه الكوارث للشعب الفلسطيني هو النظر لقضيتهم من الزاوية العاطفية وليست من الزاوية الحقيقة لتوازن القوى العالمي المختل لصالح إسرائيل، في حين أن الدول العربية ليست ضدّ القضية الفلسطينية. بل الواقع الذي تشكل بعد 1948 من الصعب بل ومن المحال اللعب فيه أو تغييره وفق خلل الموازين الدولية،
وأضيف للخل التالي: إن الشعوب العربية في عقليتها الحالية والتي تشكلت من تراكمات النظم السياسية ومنذ وصول العباسيين ولغاية انهيار العثمانيين تعيش حالة من تغييب العقل لصالح المستبد، وما زاد في الطنبور نغماً هو بعد انهيار العثمانيبن واستعمار الشعوب التي كانت في آخر مرحلة من الترهل والتمزق العقلي الذي بدأ يعمل بشكل معاكس لمراد الله في نواميسه، فجاء الاستعمار المباشر ونشأت النزعات القومية التي ساهمت كضربة قاضية لمفهوم الأمة، ثم استبدل الاستعمار المباشر بالأنظمة الاستبدادية التي قضت تماماً على منظومة العقل العربي والإسلامي وتمزق الشعوب والمجتمعات حتى طالت الإسرة الواحدة، هذا التمزّق رفع رسائله متعالياً شامخاً كرأس الشيطان في الثورة السورية التي كشفت عمق تمزق وتحطيم الشعوب العربية والإسلامية.
من قلب هذا الركام كلّه خرجت حماس لتبني تحالفاً مع ألدّ أعداء العرب والمسلمين تحت شعار براق يسمى تحرير القدس، واليوم نرى ونسمع بأم أعيننا كيف يقف الإخوان المسلمين مع ولاية الفقيه، فإذا كان التشخيص هو تشخيص مختلّ من عقل يعمل بدون ثوابت وبدون فهم التاريخ وبدون أن تدرك حجم الجهل والتخلف في العقل والمجتمع، ومن هذا الخرق تمّ أخذ الشعب الفلسطيني للذبح بالمجان، إن لم يكن هذا جنون وتخلف وتفكير منتكساً إلى قبل ألف وأربعمائة عام فماذا نقول عنه؟.
صح النوم يا حماس ويا إخوان مسلمين، فالقضية ليست بأن نموت بالمجان ونعتقد أنه شهادة، ومن قال إن الله سبحانه يفضل أو يريد أن تموت بالمجان؟ هذا هو جوهر الخلل في العقل العربي والإسلامي.
الإحراج الرابع:
في دول الخليج، فدول الخليج قد ضاقت ذرعاً من التخادم الأمريكي الإيراني حتى وصلت لمرحلة أن أمنها القومي بات في دائرة الاستهداف الحقيقي، وطالتها ايران بخنقها من الجنوب من خلال الحوثي وفي الشمال من خلال العراق ومن الجنوب الشرقي سوريا درة المحور الإيراني، لهذا فضلت أن تنسحب من المشهد السوري والتوجه لتأديب الحوثي معتقدة أن أمريكا الأوبامية لن تخذله، ولكن فوجئت في خضم الحرب ضد الحوثي بوقف توريد الأسلحة والضغط بكل قوة لوقفها عاصفة الحزم، ثم قامت برفع الحوثي عن قائمة الإرهاب، ذلك أن التخادم الأمريكي الإيراني أهم من كل دول الخليج، ذلك لأن أمريكا بالتيار الأوبامي تريد أن تبقي على إيران كقاعدة ضد روسيا والصين في حال انتقل الصراع المؤجل مع الصين، الأمر الذي استوجب تدوير الزوايا تحت مبررات ترضي أمريكا بإجراء صلح صوري مع طهران برعاية الصين، وتحت الضغوطات الداخلية الهائلة من الجمهوريين المعارضين لسياسة بايدن اضطر بايدن لزيارة السعودية ويؤكد صورياً أن أمريكا ملتزمة بأمن الخليج، ثم استقدمت حشوداً هائلة للشرق الأوسط غير مسبوقة لتوهم دول الخليج وترضي الجمهوريين بأنها ستؤدب إيران ومحورها، ثم ما لبثت أن انقشع الغبار أن هذه الحشود تقلصت وتراجعت لحين حرب غزة.
الإحراج الخامس والأخطر:
هو الحرج الأمريكي بعد حرب غزة بعد أن خرج نتنياهو عن صمته الذي طال سنين وسنين، وأدرك بايدن أن نتنياهو سيدمر المحور الإيراني ويجهز علي كل ما أنتجه التخادم الأمريكي الإيراني المعلن بعد غزو العراق، الأمر الذي وضع أمريكا في نقطة حرج قاتلة، فكان أول تصريح لوزير خارجية بايدن بعد أن زار تل أبيب بأنه يزور إسرائيل كصهوني وأن أمريكا هي الأب الروحي والداعم الأقوى في العالم والضامن لأمن وسلامة إسرائيل، والحقيقة هي نوع من امتصاص الغضب الإسرائيلي، ثم بدأت الدبلوماسية الأمريكية في حالة من الرجاء لنتنياهو لوقف إطلاق النار، وفشلت كل الجهود لوقف النار، تحت ضربات متلاحقة وصاعقة من نتنياهو لإيران ومحورها بدءًا من قتل علماء المشروع النووي وسرقة كل الملفات للمشروع الإيراني وقتلت رئيسها ووزير خارجيته..إلخ. وذلك لاستجرارها للمواجهة لأنه ضمن أن أمريكا لا تستطيع أن تتخلى عن إسرائيل لأنها ملتزمة بأمنها والدفاع عنها وفق استراتيجية أمريكا على مدار عقود خلت، ولو دققنا بين التصريحات الإسرائيلية الداعية للرد الساحق على إيران وبين التصريحات الأمريكية التي تستجدي نتنياهو بعدم الرد بحجة أن الضربات الإيرانية صورية وشكلية، لكن الحقيقة فإن نتنياهو وضع الأمريكي في الزاوية التي لا مناص الا أن يقف معه، فالأمريكي اليوم بين الترجي لنتنياهو وبين الترجي لإيران بضبط النفس، علماً ان بايدن صرح بأن إسرائيل إذا ضربت إيران فعليها أن تدرك أنها ستخوضها منفردة، لكن هيهات هيهات فقد سبق السيف العزل.
الإحراج السادس والمؤلم:
لفرنسا وتلك التي تتزعم الاتحاد الأوربي التي لعبت الدور الأبرز لوصول الخميني للسلطة، والمهندسة لبنية نظام لبنان وسوريا ذو الطابع الطائفي، والشريك الداعم والظهر القوي لسياسة التخادم الإيراني الأمريكي، وجدت نفسها هي الأخرى أن كل ما ساهمت به في بناء المحور الإيراني الذي يتساقط أمام أعينها، فكانت أول دولة دعت لاجتماع مجلس الأمن لوقف النار في لبنان ولم تدعي لوقف النار في غزة، إنها تبادل أدوار وكل طرف يمارس دوره في ملعبه، وبذات الوقت فإن أوروبا بزعامة فرنسا لا تستطيع أن تقول وتتبني مواقف تهدد أمن ووجود إسرائيل، فهي الأخرى في ذروة الحرج وأحياناً تتجاوزه للتهجُّم على نتنياهو ولكن بحذر شديد، لكن شأنها شأن أمريكا فهم يبلعون السكين بحديها القاطعتين، وأينما تحركت فستجرح وبعمق لحد العظم.
أما روسيا ليست محرجة بقدر حاجتها لرضا الدور الإسرائيلي العالمي المؤثر فهي أمام فرصة تاريخية، هي تدرك أن إيران في سلة أمريكا ولكنها كانت مضطرة أن تتخادم معها لأنها على حدودها ولا تخسرها ولكن بدون ثقة وكلا الطرفين بحذر شديد، فكانت الفرصة لتدعم إسرائيل وبكل قوة لتخفف عنها في أوكرانيا، ولكن بصمت، وعلى غرارها الصين التي تراقب بصمت مطبق وفرح شديد لما يحصل، في فرصة تاريخية لزجّ أمريكا في حرب في الشرق الأوسط لتخرج هي الأخرى على قمة الهرم الدولي بدلاً من سطوة الأمريكي الذي يحشد حولها ويحاصرها من كل الاتجاهات البرية وبحرها الجنوبي والشمالي، ولا يمكن بأي حال أن تفوت لمن يعد لها العدد لمنعها من تسلق قمة العالم.
هناك إحراجات وإحراجات، اقتصرت على أهمها لأقول: إنّ السياسة الإسرائيلية استطاعت أن تجتاز كل العوائق لتضرب المحور الإيراني وبتصميم غير مسبوق، ذلك لأنها تخوض حرب وجود ولعلها آخر الحروب، إسرائيل ستضرب إيران في عمقها الاستراتيجي وسترد إيران وعندها ستجبر أمريكا وأوربا للدخول للدفاع عنها، فالفرصة سانحة والرياح باتت مواتية لسفينة نتنياهو.
ولعل من الإنصاف أن نقول تلك هي العبقرية السياسية والاستراتيجية فالحياة فرص، ومن لم يصنعها ويقتنصها فهو مجنون ويتآمر على ذاته، ليس صحيحاً بالمطلق أن إسرائيل هي التي أعطت الغطاء لإيران للدفاع عن الأسد، ولو أوهمت حتى بوتين ذاته بذلك، أو توهم بسطاء القوم، لكنها خططت وعملت بكل اخلاص لقضيتها، ووضعت القوى العظمى كلها في صفها ليس بسطوة اليهود في العالم وإن كان له دور ومبالغ فيه، ولكن بعبقرية وعقل جمعي يعي ما يجري، وضبطت أعصابها منذ عام 2006 بعد حرب لبنان، ولم تنم لحظة حتى اخترقت كل الشرق الأوسط برمته من خلال فجوة واحدة وهي أنها تعمل وسط شعوب منفعلة غير فاعلة، فاستطاعت أن تلتقط المبادرة بعدم السماح لأمريكا أن تهدم أهم إنجاز في تاريخ اليهود قبل الإسلام ولغاية اليوم أن تكون هي والعالم العربي والإسلامي السني في خندق واحد ضد عدو مشترك وهي ايران التي وقعت بذات الحفرة التي دمرت الأمة وهي الخلاف المذهبي والحقد الطائفي الذي شل عقلها وحرفه عن الحقيقة، والتي اعتقدت أنها أهم من اليهود وأذكى منهم، ولكن هيهات هيهات، فمن يعمل بنواميس الوجود ليس كمن يتحدى نواميس الوجود، وحسبوا أن الله غاملاً، بل لم يدركوا هؤلاء الظلاميين الحاقدين ـنهم ارتكبوا من الموبقات ما يفوق العقل الإنساني أن يستوعبه، فقد أفرغوا أحقادهم على محمد صلى الله عليه وسلم صحبه وعلى العرب، بل حقدهم على الله ذاته لأنه خلق العرب وبعث فيهم نبي، وهكذا يا سادة يا كرام فإن ايران ستضرب والمحور منتهي حتماً ولا محالة وإسرائيل سترد وبقوة لتجبرها على الرد وعندها ستكون أمريكا وأساطيلها وأوروبا ومالها وحضارتها في خدمة إسرائيل وشوارب نتنياهو، والعقل الحصيف المستقيم من أبرز سماته أن ينصف عدوه قبل صديقة، فالحقيقة كما هي أولى من الدجل والعيش بأحلام وشعوذه وتنجيم مهما كانت صعبة.