التاريخ مليء بالأحداث، لكنه أيضا مزدحمٌ بشخصيات وجماعات لم تكن ثابتة على مبدأ، بل “كوّعت” حيث دارت الرياح.
فالانتهازية ليست جديدة، بل هي ظاهرة قديمة قِدم المجتمعات البشرية، رافقت الملوك والسلاطين، كما رافقت الفقراء والمعدمين، وكلٌّ حسب حاجته وقدرته.
وتراثنا العربي يذخر بأخبار جدودكم الأولين، منذ الجاهلية إلى يوم الله هذا وستستمر إلى يوم الدين.
يخبرنا عنترة بن شداد عن تجربته الشخصية مع انتهازية قومه فيقول:
ينادونني في السلم يا ابن زبيبة
وعند صدام الخيل يا ابن الأطايبِ
يصف هنا كيف كان يُنسب إلى أمّه – التي كانت أمَةً – في أوقات السلم، لكن حين تحين لحظة الحرب، يتحول فجأة إلى “ابن الأطايب”، فالمصلحة تقتضي أن يكون فارسا نبيلا يحمل عنهم العبء ويذود عنهم هجمات الأعداء.
أما زهير بن أبي سلمى، فيُحذّر من محاولة التستر على “التكويع” والانتهازية، مؤكدا أن الطبع يغلب التطبع:
ومهما تكن عند امرئٍ من خليقةٍ
وإن خالها تخفى على الناس تُعلَمِ
ولن ننسى جدّكم الأكبر، عبد الله بن أُبيّ بن سلول، زعيم النفاق في المدينة، الذي كان يميل حيث تميل مصالحه، حتى نزلت فيه آيات تتلى إلى يوم الدين، ليبقى اسمه مقرونا بالخذلان والتلون إلى الأبد
ويُقال أيضا أن الحجاج كان يسير يوما في موكبه، فوقف على رجلٍ وسأله: “من أنت؟” فردّ الرجل متجاهلا مقام الحجاج: “أنا ابن بُريدة، رجلٌ من عامة الناس.” فأراد الحجاج اختباره فقال له: “ما رأيك في الحجاج؟” فذمّه الرجل وقال: “رجلٌ ظالم، سفّاك للدماء، لا يتقي الله ولا يخشاه!”
عندها ابتسم الحجاج ابتسامة ماكرة وسأله: “وهل تعرف من أنا؟” فأجابه الرجل ببرود: “لا.” فقال الحجاج: “أنا الحجاج بن يوسف.”
فما كان من الرجل إلا أن غيّر موقفه فورا وقال: “رحمك الله يا أمير، أما آن لك أن تعرفني؟!” فسأله الحجاج باستغراب: “ومن تكون؟” فقال له الرجل وهو يحاول النجاة: “أنا مجنون هذا القوم!”
أما زمن الدولة العباسية، حيث كانت السياسة تُدار بالمؤامرات مثلما تُدار بالحكمة، برع كثيرون في تغيير مواقفهم وفق ما تقتضيه المصالح. وقد عبّر ابن الرومي عن هذه الظاهرة حين قال:
رأيت الناس قد مالوا
إلى من عنده مالُ
فالمبادئ عند هؤلاء ليست سوى سلعة تُباع وتُشترى، والولاء لمن يدفع أكثر.
أما ابن حزم الأندلسي، فقد عبّر عن حال من تخلّوا عن رفاقهم عند الحاجة، وكأن كلماته اليوم تخرج من فم “بشار الأسد” بعد أن تخلى عنه من كان يتملّقه يوما:
كم صديق رأيته في الرخاء
فلما حلت المصائب أعرض
وفي دمشق، لم يكن عبد الغني النابلسي بعيدا عن وصف حال “المكوعين”، فقال:
يُظهِرُ التقوى ليرقى فوق مرتبةٍ
حتى إذا ما قَضَى حاجَتهُ انقلبا
فكم من سياسيٍّ أو وجيهٍ تلبّس بلباس الدين والمبادئ، حتى إذا نال ما يريد، خلع القناع وكشف عن وجهه الحقيقي.
لكن إذا كان هناك لقب “شيخ المكوعين” في “فن التكويع”، فلا شك أنه سيكون للمتنبي. فقد مدح كافور الإخشيدي بقصائد مليئة بالتزلّف، قائلًا:
حببتك قلبي قبل حُبّك من نأى
وقد كان غدّارا وكنت أنت وافيا
خلقتُ ألوفا لو رحلت إلى الصّبا
لفارقتُ شيبي موجع القلب باكيا
ولكنّ بالقسطاط بحرا أَزَرتُه
حياتي ونصحي والهوى والقوافيا
ولكن عندما لم يحصل على ما كان يطمح إليه منه، انقلب عليه بهجاء لاذع بقصيدة طويلة، قال فيها:
لا تَشتَرِ العَبدَ إلا وَالعَصَا مَعَهُ
إنَّ العَبيدَ لأنجَاسٌ مَنَاكِيدُ
وكان لهذا الهجاء الجارح عواقب وخيمة، إذ لاحقه كافور حتى قتله في النهاية، ليكون عبرة لكل من يغيّر ولاءه حيث تقتضي المصلحة، دون أن يُحسن التراجع بذكاء.
ولو أردنا أن نختم حديثنا بكلمات تصف “المكوعين” خير وصف، فلن نجد أبلغ مما قاله صفي الدين الحِلّي بعد انهزام المغول بإحدى معارك القبائل العربية بباديتي الشام والعراق:
“كم من عدو لنا أمسى بسطوته
يبدي الخضوع لنا ختلاً وتسكينا
كالصل يُظهر لينا عند ملمسه
حتى يصادف في الأعضاء تمكينا
يطوي لنا الغدر في نصح يشير به
ويمزج السم في شهد ويسقينا”
فهكذا هو التاريخ، يمتلئ بـ”المكوعين” الذين يبدون الولاء لمن بيده القوة، حتى إذا تغيّرت الموازين، انقلبوا بوجه آخر. فهنيئا لكم، يا معشر المكوعين، فأنتم لستم وحدكم، بل لكم أسلافٌ وأحفادٌ سيحملون رايتكم جيلاً بعد جيل!