خمسة وخمسون عاما مرت على حدث ثورة 26سبتمبر 1962م في شمال اليمن، وأربعة وخمسون سنة مرت على انطلاق ثورة 14 أكتوبر في جنوبه، ومازالتا الثورتين في صلب الصراع السياسي والاجتماعي في اليمن، تماما كما هو الحال في تقدير إنجازاتهما وإخفاقاتهما ومصائر الأهداف والوعود التي وعدت بهما الشعب في شمال اليمن وجنوبه .
ولعل أول مفارقة يمكن تسجيلها في تعامل اليمنيين مع ثورة سبتمبر بعد ثلاث سنوات من سقوط العاصمة صنعاء في يد الحوثيين – وشريكهم صالح- اللذين يعتبرون بالمعنى السيسيولوجي والسياسي الإمتداد الطبيعي والثقافي والاجتماعي لدولة الإمامة التي أسقطتها ثورة سبتمبر1962م والعائلات التي كانت تتقاسم إحتكار الحكم والسلطة بدعاوى مذهبية وطائفية وسلالية شتى، هو عودة الروح لمعنى ثورة سبتمبر والإحتفاء والإحتفال المتزايد بذكرها بعد أن كانت قد تحولت إلى مجرد مناسبة رسمية نمطية لا تكاد تعني للناس شيئا بل إن قطاعات شعبية مختلفة كانت تناصب ذكرها العداء بعد أن تحولت على يد نظام علي صالح الى وسيلة لتكريس النظام والفروقات الإجتماعية ومبررا لجرائم النظام وخدمة طبقته المسيطرة ، وهاهم الناس يأخذون ذكرى ثورة سبتمبر ويحولونها الى وسيلة للتعبير عن رفضهم للتحالف الرجعي الصالحي الحوثي ومشروعهم السياسي القائم على الهيمنة والتمييز والاستئثار بالسلطة وتكريس الفروقات الطائفية والسلالية والمناطقية وفرضه بالعنف والقوة المسلحة.
يمكن أن يسجل المرء أن ثورة 26سبتمبر 1962م على إنجازاتها الاجتماعية والسياسية والتاريخية التي على رأسها إلغاء نظام الإمامة الكهنوتي القروسطي وإعلان أول جمهورية في الجزيرة العربية والتحولات الإجتماعية الواسعة التي فتحتها أمام الأغلبية الشعبية التي وجدت عبر التعليم العمومي الذي فتحته الثورة والانخراط في الجيش الوطني الذي أسسته مصعدا للحراك الاجتماعي وتغيير وضعها الاجتماعي والاقتصادي، والانفتاح على العصر والعالم بعد أن كانت الإمامة قد حبستها – حسب وصف مؤرخين كثر وبدون مبالغة- في القرن الرابع عشر في أحسن الأحوال .
على أنها رغم كل الإنجازات والمكاسب بقت عاجزة عن إنجاز اندماج اجتماعي وكان نظام الإمامة القروسطي والتخلف الاجتماعي والاقتصادي الشامل الذي عاشته اليمن قد حال دونه، وعن تحقيق مواطنة متساوية لجميع اليمنيين، فتركز السلطة في المنطقة القبلية الشمالية وتكريس مستويين من المواطنة في مستوى علاقات السلطة والحكم بقت مستمرة، حتى أنه وفي هذا المستوى يمكن وصف التغيير الذي أحدثته ثورة سبتمبر في مستوى السلطة ومع شيء من التحفظ، بأنه نقل السلطة والهيمنة من الزعامة الروحية المذهبية التي كانت تمثلها بعض الأسر(الهاشمية) التي كانت تتصارع على الحكم والنفوذ بدعاوى مذهبية وسلالية، الى الزعامة الاجتماعية التي كان يمثلها شيوخ القبائل في نفس المنطقة القبلية الشمالية الزيدية- بمشاركة قادة العسكر اللذين ينتمون لنفس المنطقة غالبا والبرجوازية التجارية الناشئة – .. صحيح أنه لم يعد هناك أي مانع قانوني او دستوري يحول دون تمتع جميع المواطنين بنفس الحقوق وبالفرص المتساوية، الا أن واقع تكريس التمييز بين المناطق القبلية الشمالية وبين مناطق ما يعرف باليمن الأسفل كان هو العبء الأكبر على نفوس وعقول المواطنين، رغم حقيقة مشاركة البرجوازية التجارية من كل مكان في السلطة والمصالح ومشاركة رأس البيروقراطية الحكومية التي تنتمي بأغلبها الى غير المناطق القبلية في السلطة والثروة، ورغم واقع تحول السلطة والنظام في العشريتين الأخيرتين الى عصابات مفيوزية تحتكر الثروة وتتصارع على التصرف في الريع، ما يفسر طبيعة الصراع الذي شهدته الطبقة الحاكمة قبل وأثناء ثورة فبراير وبعدها، لذلك كله وسواه بقت مسألة تحقيق المواطنة المتساوية وأنهاء التمركز التاريخي للسلطة في المنطقة الشمالية على رأس أهداف ثورة سبتمبر غير المنجزة وعلى جدول المهام التاريخية أمام اليمنيين.
مفارقة أخرى يمكن تسجيلها عند الحديث عن مصير ثورة 14 أكتوبر 1963م في جنوب اليمن ضد الاستعمار البريطاني والتي انتهت باستقلال كامل وناجز في 30 من نوفمبر 1967م وتوحيد أزيد من خمسة وعشرين سلطنة ومشيخة في جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية، واقامة نظام اشتراكي تقدمي كان النظام العربي الوحيد المعلن انتمائه بشكل علني وصريح (للماركسية) و للمعسكر الاشتراكي، تحولات اجتماعية واقتصادية وسياسية كبيرة أنجزها النظام الاشتراكي في الجنوب على مستوى التعليم والصحة وحقوق المرأة والعدل الاجتماعي ونجاحه في تأسيس هوية مواطنية جديدة ومتساوية ومحاولة إذابه الفوارق المناطقية والعشائرية في الجنوب والذي كان يتكون من أزيد من خمسة وعشرين سلطنة ومشيخة – ومستعمرة عدن- بحدود وعلم وأسر حاكمة، ومارس النظام ضرب متشدد من محاولة الغاء هذه الفروقات حتى الغى اسماء المحافظات والسلطنات مستبدلا اياها بالأرقام، إلا ان فشل النظام في تدبر الصراعات والاختلافات بين أجنحته المختلفة بشكل سلمي أفضى الى دورات متعاقبة من الصراع العنيف انتهت بكارثة 13 يناير 1986م التي قصمت ظهر الحزب والدولة وقضت على أغلب قيادات الثورة التاريخية، ليصل الحزب بوضعه ذاك الى اعلان الوحدة – التي كانت دائما على رأس أهدافه – مع نظام علي صالح في الشمال العام 1990م، وحدة كان من عاقبة إستعجالها وسوء الإعداد لها أن انتهت الى حرب في صيف 1994م المنتهية بانتصار علي صالح وحلفائه الإسلاميين والقبليين .
المفارقة أن الشعب في الجنوب لا يبدو مكترثا بذكراها أو شعارتها- ربما بفعل مرارة تجربة فشل الوحدة وما نتج عنها من صرعات وحروب آخرها الغزو الحوثي الصالحي لعدن والجنوب وبقية اليمن – والمفارقة الأكبر أن من بقى من زعمائها ورموزها التاريخيين – مثل علي سالم البيض – انتهوا متنكرين لا لآشتراكيتهم وحسب بل (ليمنيتهم) داعين إلى دولة الجنوب العربي التي كانت مشروعا بريطانيا سلطانيا – مع رابطة أبناء الجنوب – اللذين أسهموا في شبابهم بأسقاطه !!
الثورة الحاملة للمشروع الوطني – رغم الشعارات اليسارية – والتي قادت الى توحيد خمسة وعشرين سلطنة ومشيخة في البداية وصولا الى دولة الوحدة بين الشمال والجنوب ورسمت مشروع المواطنة اليمنية الواحدة والمتساوية، اصطدمت بالهويات قبل الوطنية عند كل منعطف وصراع .
أفق فبراير
المتغير الأساسي الذي عرفته اليمن في السنوات الأخيرة كانت ثورة 11فبراير 2011م – ضمن موجات الثورات العربية- ولئن كانت ثورة سبتمبر قد بدأت بحركة جيش وأكسبتها سنوات الصراع مع الإمامة ومشروعها الاجتماعي طابع الثورة، ولئن كانت ثورة أكتوبر قد بدأت بجماعة ثورية أعلنت حرب تحرير شعبية ضد الاستعمار البريطاني وحلفائه من سلاطين ومشايخ متحولة خلال سنوات الكفاح والحرب الى أول مشروع (اشتراكي) في الوطن العربي، فإن ثورة فبراير كانت من يومها الأول حراكا ثوريا شعبيا جماهيريا كان عماده الطلاب وسكان المدن والعمال والموظفين، بينما غلب على ثورتي سبتمبر وأكتوبر الطابع الريفي والقبلي، ولعل هذه احدى نقاط ضعف ثورة فبراير- الطابع المدني- في مجتمع أغلبيته ريفية وقبلية وأحد نقاط قوتها في نفس الوقت، انتشرت الثورة في 18 ساحة في اربع جهات اليمن واستطاعت تعبئة ملايين اليمنيين لأسابيع وأشهر، ووضعت المشاكل السياسية التاريخية اليمنية على جدول أعمال اليمنيين، جاعلة منها قضية الناس لا مقتصرة على بضع نخب معزولة ومنفصلة عن عموم المواطنين، مشكلة تركز السلطة في المنطقة القبلية الشمالية، مشكلة العلاقة بين المناطق في الجنوب وفي عموم اليمن، طبيعة العلاقة بالمحيط في الجزيرة والوطن العربي، المشاركة في السلطة والثروة، وإنجاز دولة جديدة بمصالح وخيارات اقتصادية واجتماعية مختلفة في مصلحة الغالبية الشعبية وعلاقات من نوع مختلف بين الدولة والمواطن، وإنجاز المواطنة المتساوية والموحدة لعموم المواطنين .. ورغم ثلاث سنوات من الحرب ومن الردة الرجعية الحوثية الصالحية والصرعات الإقليمية والدولية التي وجدت اليمن نفسها داخلها، فإن لا شيء قادر على إلغاء أو تجاوز الافق الذي رسمه فبراير !!