لدى اليمنيين قدرة هائلة فى صنع العلاقات الأخوية المتميزة خارج وطنهم، وفى كل بلد حلوا فيه كانوا جزءاً من نسيجه الأصيل، يتفاعلون إيجابيا مع محيطهم دوما، لذلك تجد كل المجتمع العربى الفاعل فى جنوب وشرق آسيا من إندونيسيا وماليزيا وسنغافورة وحتى شرق إفريقيا وعمقها، ذات بصمة يمنية أصيلة تمتد لعقود طويلة. وعرفت بلاد الغُربة أجيال يمنية مختلفة ووجهات سفرٍ لا تُحصى، وفى وقتنا الحاضر ترسخت لدى اليمنى قناعة ثابتة بأن أى بداية للخروج والسفر لخارج اليمن يفضل أن يكون عبر القاهرة!.
وعندما يفكر أى يمنى بالسفر للتعليم أو العلاج أو الفسحة، يذكر القاهرة وكأنها مدينة ملاصقة لمسكنه المعلق فى الجبال، ولديه ثقة وعشم أنها وطن وليست غربة، فمصر هى الامتداد الوجدانى والثقافى لليمن والذى كرسته حقب تاريخية مشتركة.
فعندما جاء اليمنيون الأوائل إلى الفسطاط بمصر ذابوا فى نسيج مواويل الشجن المصرى وبقوا جزءاً من سحنة ابن البلد الأصيل، لذا ترى الجيم اليمنية غير المعطشة فى النطق المصرى لم تغادر لسانه، وبقى حكى قبائل الغرب اليمنى من قبيلة عكا التهامية مثلا يسرى بين الناس عندما لا تفهم لهجتك فيقولون لك ( أنت بتعك )، وتلك إشارة إلى أن أهل قبيلة عكا التهامية اليمنية الذين وصلوا مصر وكانوا هم جُل جيش عمرو بن العاص وكان لسانهم غير فتمصّروا وتيمنن لسان الفُسطاط والصعيد !. وعندما ازدهر حكم الدولة الفاطمية بالقاهرة كانت الدولة الصليحية باليمن جناحها ورئتها مذهباً وانتماءً ومحبة!.
وعندما رسخ صلاح الدين الأيوبى حكمه فى مصر كان شقيقه يقوى سنده فى تعزيز الحكم باليمن وهو من أسس مدينة تعز قلب اليمن الحاضر الآن، وظهرت الدولة الرسولية وهى أعظم مملكة حكم وإنجاز حضارى إسلامى عرفها اليمن فى تاريخه كله !. لذا تجد مساجد تعز وزبيد وجبلة وكأنك فى جوامع مصر الفاطمية والايوبية! . ونحن من جيل عرف أن تعريف الإطلالة على العالم الخارجى باليمن لابد له أن يمر عبر مصر.
وتلك علاقة ممتدة بين مصر واليمن لا يمكن المزايدة عليها.
وفى كل مرحلة نمو بمصر ينعكس الأمر على اليمن ،وإذا حاصر التعب القاهرة أصيب اليمن بالسهر والحمى ذاك قدر البلدين الشقيقين، وشواهد التأريخ.
يقتتل اليمنيون فيما بينهم ثم يلملمون جراحهم جميعا وهم من أطرافٍ مختلفة ويسافرون للعلاج بنفس الطائرة إلى أم الدنيا ( نحن نراها قبل هؤلاء أم اليمنيين ).
وأهم لحظة تاريخية عند اليمنيين هى إنجاز ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962، التى تعد محطة اليمن الأساسية للخروج نحو العصر وإنهاء عقود من الظلام والقهر، ثم أعقبتها ثورة 14 أكتوبر 1963 والتى أخرجت الاستعمار إلى الأبد، ولولا مصر وشعبها مع اليمن ما كان له تحقيق الاستقلال الحديث وإنهاء عصر الإمامة المظلم.
لذا لا يجادل اليمنى بشيء كاعتزازه بهويته الضاربة فى أعماق التاريخ وحب مصر ، وستجد اسم عبد الناصر فى كل مدينة يمنية ملتصقا إما بمنجز تعليمى أو مسمى لشارع رئيسي.
اما من عاش فى مصر من اليمنيين فقد بقوا جزءاً من نسيجها الأصيل، يتباهى اليمنى بإنجاز نجم كرة القدم فى ستينيات القرن المنصرم الكابتن على محسن المريسى وأنه أحد نجوم الزمن الجميل وبعضهم من فرط عشقه للرجل ومصر بقى زملكاوياً أكثر من الزمالك! .
وكل نجوم الأدب والفن لم يكن لهم عاصمة غير القاهرة، ولا يقول الناس عن على أحمد باكثير إلا أنه أديب مصر وكاتب وإسلاماه، ويفخر اليمنيون بذلك ولا يجادلون رغم انه منهم، وجاء مصر طالبا يمنيا ومات فيها علما من اعلام مصر .
وأنا من جيل لم ير دعم مصر بالسلاح، بل أيضا بجيش من المعلمين والأطباء، وكانت شحنات الكتب المدرسية تأتى لنا من القاهرة، وتقاسمنا مع طلاب مصر رغيف الخبز وكتاب القراءة وطبشور المعلم، وسرير المستشفى! وقرص الدواء، ومثلما درسنا كتاب القراءة بالثانوية العامة فى اليمن وكان مقرر قصة ابن النيل لجاذبية صدقى !، مثلما كانت قصيدة العبور للدكتور عبدالعزيز المقالح رحمه الله فى مقرر النصوص بالمنهج المصري!.
أكمل جيلى عمره ولم أعرف ما يسمى تجديد وثائق الإقامة أو رسوما خاصة بالاجانب فى القاهرة، وغادر أولادى المدرسة بمصر وهم الجيل الثالث من العائلة، برحلة عودة إلى اليمن، وصدم مشرفى المدرسة والجهات الرسمية بمصر يومها أن بطاقات هويتنا يمنية وليست مصرية بعد سنوات!. لم يكن أحد يسأل ولم نكن بحاجة إلى إثبات هوية، فتلك هى مصر حمالة الأسية.
.
اليوم لا نحتاج حملة دبلوماسية لإنهاء إجراءات مؤقتة خاصة باليمنيين في مصر، ولا لمرافعة أدبية تثبت أقدمية وثائق المحبة قبل أوراق الجنسية! لأن المستقبل والتاريخ يجعلان ضرورة فتح كل النوافذ هو الثابت، وما عداه سحب صيف عابرة ستنتهي وآن لها أن تنتهي.
الكاتب سفير اليمن في المغرب
نقلا عن جريده الاهرام المصريه