بلال الطيب:
ما زلت أتذكر بألم، ذلك الكهل «السفياني»، وهو يَتحدثُ بفخر مائز، عن طيشه ومغامراته، وكيف قَتل بِدم بارد ذات نهار، مُغترب «تعزي» عائدا لتوه من أرض الغربة، منتصف ثمانينيات القرن الفائت، وبرفقته زوجته وطفلاه، دفنهم بقبرٍ واحد؛ وعاد لقبيلته متباهياً بما كسبت يداه، وبالسيارة والأموال ابتنى منزلاً، وحج إلى بيت الله الحرام «4» مرات.
التقيت قاطع الطريق ذاك، بداية العام «2000»، أثناء تأديتي خدمة التدريس الإلزامية بمديرية «حرف سفيان»، جنوبي «صعدة»، له وجه شاحب، ولحية بيضاء كثة، مائلة للصفرة، وماضٍ أسود، مليء بالدم والثارات؛ حدثني أيضاً، عن أفراد من قبيلته غادروا «سفيان» و«برط»، قبل عشرات السنين، إلى «إب» و«تعز»، واستقروا فيهما، وما لقب «السفياني» و«البرطي» و….الخ، إلا امتداد لأصله القبلي الذي يتباهى به.
عُدت إلى المراجع التاريخية، بحثاً عن أي تفاصيل مُتصلة، تؤرخ لذلك النزوح، فوجدت بغيتي في كتاب «حوليات يمانية» لمؤرخ زيدي مجهول، تَحدثَ فيه عن مجاعة كُبرى حدثت في بكيل «1823»، خرج الناس بسببها خرجة رجل واحد، كبارهم وصغارهم ونساؤهم، وصلوا صنعاء، نهبوا وقتلوا، ثم توجهوا صوب «اليمن الأسفل»، استوطنوا، وتزوجوا، وتمشيخوا، ونسوا بلادهم، واستولوا على الحصون العالية، والأراضي الخصبة، وحولوا ملاك الأرض الأصليين إلى «أجراء»، لا «حول» لهم ولا «زرع»{1}.
«متفيدوا الهضبة» قبل ذلك الاجتياح، كانوا يعودون مُحملين بالغنائم، يأبون الاستقرار، إلا النادر منهم، حدثت أشهر غزواتهم في عهد الإمام «الناصر» صلاح الدين بن علي، نهاية القرن الثامن الهجري، الذي وحدهم، وقادهم صوب اليمن الأسفل وتهامة، في حروب عبثية، لا غرض منها سوى النهب، والسلب، وتدمير العمران، ليأتي بعده بـ «150» عاماً، الإمام «الناصر» المطهر شرف الدين، ويمارس ذات الجنون، بصورة أقل فظاعة.
في عهد «الدولة القاسمية»، حضرت الفتوى الدينية، وبموجبها صار «الشوافع» كفار، وقتلهم واستباح أموالهم جهادا في سبيل الله، كانت حينها الطرق الصوفية قد وجدت طريقها للانتشار، بفعل الدعم والرعاية «الرسولية»، ثم «الطاهرية»، ثم «العثمانية»، وهو المدخل الذي تسلل من خلاله مؤسس تلك الدولة، الإمام «المنصور» القاسم بن محمد «1598»، الذي قتل بيديه أحد مشايخ الصوفية في صنعاء{2}، وأصدر فتوى كفر بها اتباعها وداعميها؛ نقلها المؤرخ المطهر بن محمد الجرموزي، في كتابه «النبذة المشيرة إلى جمل من عيون السيرة».
يقول الإمام القاسم: «إن أصل دينهم من بقية أولاد المجوس، أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، حقناً لدمائهم ودينهم، قاتلهم الله ولعنهم، فإذا خافوا على نفوسهم خلطوا تلك الملاهي بالتهليل ومولد النبي، فالواجب على المسلمين استباحة دمائهم وأموالهم، لأنهم كفار مشركون؛ بل شركهم أعظم وأكثر، لأن المشركين كانوا يقرون بالله، ويجعلون له شركاء وهي الأصنام، وهؤلاء لم يجعلوا إلههم إلا الحسان من النساء والمردان، ولا يعرفون لهم رباً غير ذلك قاتلهم الله، فمن أجارهم فهو كافر، ومن أحسن إليهم فهو كافر، ومن عمل ذلك، فقد أعان على هدم الإسلام، ومن أعان على هدم الإسلام فهو كافر»{3}.
عمل «الأئمة الزيود» على ترسيخ التمايز الطبقي، والاستعلاء الفارغ، بين أبناء قبائل الهضبة، وجعلوهم يحتقرون الأعمال الزراعية، والمهن الحرفية، والأشغال التجارية، وصيروهم وقوداً لمعاركهم التوسعية المُقدسة، وأصبح الشخص الذي يمارس التقطع، والسلب، والنهب، «قبيلي» لا تلحقه أي منقصة؛ فإذا ما ترك تلك الأساليب المُشينة، وأراد أن يأكل «الخبز الحلال»، مشتغلاً بالتجارة، أو الزراعة، أو أي مهنة أخرى، يصبح «ناقصاً»، فاقداً طُهره القبلي.
استغلت «الإمامة الزيدية» طبائع القبائل المتوحشة، وأضفت إليها مسحة دينية خادعة، بررت شناعة أفعالهم، وقبح تصرفاتهم، وبالنفسية البدوية العنيفة تدفق هؤلاء صوب مناطق «اليمن الأسفل» و«تهامة»، «سلبوا» و«نهبوا» و«دمروا»؛ جهاداً في سبيل الله، وإعلاء لراية الإمام.
صور الشهيد محمد أحمد نعمان ذلك المشهد المظلم بقوله: «انداحت الأفواج المتلمظة الأفواه، المتحلبة الشفاه، تريد أن تأتي على الأخضر واليابس، لتعوض عن مجاعتها التاريخية، وحرمانها الطويل، ولذلك لم تكن عملية الانتقال من منطقة لمنطقة عملاً عفوياً سمحاً، بل اتسم بطابع الغزو الذي لم يفقد على مختلف العصور مبررات وأسباباً»{4}.
عاودت قبائل الهضبة المتوحشة غزواتها، الناهبة للأرض، المذلة للإنسان، في عهد «المتوكل» إسماعيل، الذي عزز فتوى أبيه، بفتوى: «إرشاد السامع، في جواز أخذ أموال الشوافع»، وأيضا في عهد «المنصور» حسين بن القاسم، وولده «المهدي» عباس، وحفيده «المنصور» علي، ليتجسد بذلك التطبيق الفعلي لجميع الفتاوى السابقة.
تعرض كثير من المؤرخين لتلك الغزوات، تلميحاً لا تصريحاً، وقد أقترن ذكر قبائل «سفيان» و«برط» بأحداثها المؤلمة، وهذا المؤرخ عبد الله بن علي الوزير، ألمح في كتابه «طبق الحلوى وصحاف المن والسلوى» لتفاصيل مُتصلة، قال في نقله لوقائع العام «1668»، في عهد «المتوكل» إسماعيل، ما نصه: «واشتد القحط بهذه الأيام، فكان بسببه انقطاع طريق العمشية ـ في حرف سفيان ـ وهيجان دهمة ـ قريب برط ـ في أطراف البلاد، وتخطفهم لأطراف بلاد الجوف واليمن الأسفل»{5}، كما اتهم سكان ذات القبيلتين، بالتقطع للمسافرين، ونهب ممتلكاتهم، ناقلاً في كتابه أكثر من حادثة تؤكد ذلك.
وفي العام «1702» قام قبليون تابعون لـ «المهدي» محمد «صاحب المواهب» بالتنكيل بأهالي «ريمة» و«وصاب»، ووصلت الخسة بهم بأن قطعوا أذان النساء، طمعاً بالأخراص الذهبية والفضية{6}، وهو الأسلوب الذي كرره قبليون آخرون في «بيت الفقيه»، وغيرها من مناطق تهامة.
المؤرخ حسين عبدالله العمري تعمق أكثر في تفاصيل تلك الغزوات، أفرد لها مساحة في كتابه «مئة عام من تاريخ اليمن الحديث»، خلاصة ما جاء فيه: في البدء خرجت قبائل «برط» و«حاشد» في عهد «المنصور» حسين، إلى مدينة «اللحية» بتهامة «1732»، نهبوها وعاثوا فيها خراباً وفساداً، لتهجم ذات القبائل بعد «26» عاماً على «اليمن الأسفل»، وفي العام «1778» بعهد «المهدي» عباس، غزت قبائل «بكيل» مناطق «ملحان» و«تهامة»، وعملت فيهما قتلاً وسلباً ونهباً.
وخلال الـ «20» عاماً التالية، من عهد «المنصور» علي، قامت قبائل «برط» بـ «7» غزوات، مُوزعة على عديد مناطق من «اليمن الأسفل»، كما قامت قبائل «خولان» بقيادة «أبو حليقة» بغزو «حبيش، وآنس، وعنس، وريمة»، حتى قبيلة «يام» في نجران؛ مارست ذات الجنون، هجمت في العام «1729» على مدينة «بيت الفقيه» وعملت فيها أبشع ممارسات السلب والنهب والقتل، وعاودت ذلك في العام «1795».
العلامة محمد بن إسماعيل الأمير «الصنعاني»، أحد أبرز مُصلحي اليمن في القرن الـثاني عشر الهجري، عاصر الإمام الطاغية «المنصور» الحسين بن القاسم، وتصدى بقوة لجبروته، وجبروت عساكره، وموروثة حافل بعديد كتب ومكاتبات توثق ذلك، وتأكيداً للتفاصيل أعلاه، نورد ما قاله في إحدى قصائده:
يا ساكني السفحَ من صنعاءَ هل سفحت … لكم على ما جرى في الدينِ أجفانُ
عن «اللحية» هل وافاكمُ خبرٌ … تفيضُ منهُ من الأعيانِ أعيانُ
تجمعت نحوها من كلِ طائفةٍ … طوائفُ حاشدٍ منها وسفيانُ
وذو حسينٍ وقاضيها وقائدها … درب الصفا وقشنونٌ وجشمانُ
أسماءُ شرٍ وأفعالٌ مقبحةٌ … طوائفٌ مالهم يمُن وإيمانُ
فما يخافون من يوم المعاد ولا … عليهم لذوي السلطانُ سلطانُ
فكم أخافوا وما خافوا وكم نهبوا … وأخربوا فلهم في الأرضِ نيرانُ
في دولة الملك «المنصور» كم هلكت … بنادر ومخاليف وبلدانُ
الشرق والغرب منها والتهايم بل … والبحر قد خافهم في البحر حيتانُ
لا تنس «قعطبةَ» إن كنت ذاكرها … فقد أباح حماها قبل قحطانُ
وهل نسي أحد «بيتُ الفقيه» وقد … صُكت بأخبار «يام» فيه أذانُ
كم من عزيزٍ أذلوه وكم جحفوا … مالاً وكم سلبت خودٌ وظبيانُ
بعض تلك الغزوات، كانت تحدث بتوجيه ورضا من الأئمة أنفسهم، هذا ما ألمح إليه «ابن الأمير» في الأبيات السابقة، وهو ما أثبتته الأيام، وقد سجل التاريخ قيام بعض الأئمة بتوزيع قطاعات كبيرة من أراضي «اليمن الأسفل» الخصبة لكبراء تلك القبائل، وقد نشر الشيخ سنان أبو لحوم في مذكراته، صورة لوثيقة قديمة، تؤكد ملكية أسرته لـ «جبل وراف»، سبق وأن أعطي لأجداده من قبل أحد الأئمة القاسميين، ولم يتحرج بأن يذكر بأن أباه كان يتهمه بالبخل، ويعايره بأنه «ورافي»{7}.
في القرن الثالث عشر الهجري، أنقلب السحر على الساحر، واكتوى الأئمة القاسميون بسعير تلك القبائل، حاصروا عاصمتهم صنعاء أكثر من مرة، وناصروا أمراء طامحين، حتى استنفذوا ما بأيديهم من أموال، قتلوا، ونهبوا، ومارسوا جميع الموبقات، بل أن غالبيتهم بشهادة العلامة «الشوكاني» كانوا يستحلون دماء المسلمين واموالهم، ولا يحترمونها, ولا يتورعون عن شيء منها.
وفي ذلك قال حسين العمري: «كانت مشكلة القبائل اليمنية إحدى أعوص وأقدم المشاكل التي كانت تواجهها أيّة حكومة مركزية في صنعاء، وذلك بما تثيره من عصيان ضدّها، أو الهجوم على بعض المدن، أو المناطق القريبة أو البعيدة عن العاصمة، التي لم تسلم هي نفسها من الحصار، أو النهب، أو القتل»{8}.
وهذا «صاحب الحوليات»، من تفرد بنقل تفاصيل الاجتياح «البكيلي» الأخير «1823»، قال أن الإمام «المهدي» عبد الله بن «المتوكل» أحمد بن «المنصور» علي، لم يكن راضياً عن ذلك، وأشار إلى أن تلك القبائل، كانت قد تألفت أراضي «إب» الخصبة، في غزوات لها سابقة، وألمح أنهم باستيطانهم الأخير، استقلوا بتلك المناطق عن «الدولة القاسمية»، وكانت تحت أيديهم أشبه بـ «دولة مستقلة».
«فيد» و«هيمنة» و«إخضاع»، ثلاثية متلازمة، أنتهجها التحالف «الإمامي ـ القبلي» على مدى قرون، ولم يجني اليمن منه سوى الخراب، صحيح أن الأمم الوحشية ـ كما قال ابن خلدون ـ أقدر على التغلب ممن سواها، إلا أنها كما اثبتت الأحداث لا تستطيع أن تحكم أو تتحكم بنفسها أو بسواها.
هــــــــــــوامــــــــش
1 ـ حوليات يمانية، مجهول، صـ «44 ـ 45».
2 ـ البدر الطالع، الشوكاني.
3 ـ النبذة المشيرة إلى جمل من عيون السيرة، المطهر بن محمد الجرموزي، مكتبة اليمن الكبرى، صـ «31».
4 ـ الفكر والموقف، الأطراف المعنية، صـ «332 ـ 333».
5 ـ طبق الحلوى، ابن الوزير، صـ «246».
6 ـ اليمن في ظل حكم الإمام المهدي، د. محمد علي الشهاري، صـ «238».
7 ـ مذكرات سنان أبو لحوم، أحداث ووثائق عشتها، مؤسسة العفيف، صنعاء.
8 ـ مئة عام، العمري، صـ «293».