بلال الطيب :
عَـلى مَـدى التاريخ والآخـرون يتحكمون بِنا، من «الحبشة إلى فَـارس إلى الحجـاز إلى مَصر إلى تركيا»؛ تلك الخُماسية الدخيلة التي قُـدر لهـا أن تتـواجـد في ماضينا وحاضرنـا، إمـا كـ «مُنقـذ» أو كـ «وصي» يتحكم بمصائـرنا.
عِنـدمـا عَجـز الرومان عن ترويِضنـا منتصف القرن الرابع الميلادي سَلمُونا للأحبـاش كـ «فـَريسة مُنهكة»، لينسحبوا بعد ثلاثة عقود وقد وضعوا لبنات ديانـتهم المسيحية في جنوب الجزيرة العربية، وبِتَهدم سد مأرب منتصف القرن الخامس الميلادي حلَّت لعنة «مزقناهم كل مُمَزق»، استولى الثوار المَسيحيـون على العاصمة الحمْيـرية «ظفار»، إلا أن الملك الحميري «ذو نـواس» الذي «تَـهـوُّد» نكاية بالأحباش وداعميهم كان لهم بالمرصاد، طاردهم وأقتحم معقلهم في نجران، وأرتكب محرقة «الأخدود» الذائعة الإجرام، أستنجد اليمني المسيحي دوس ذو ثعلبان بملك الروم، فأوكل الأخير إلى حلفائه الأحباش مهمة الإنقاذ.
أبتداء الوجود الحبشي الثاني «525م»، ليـأتي بعد «72» عاماً الملك الحميري سيف بن ذي يزن ويطردهم بمساعدة «الفُرس»، الذين رَغَـبهم بـ «الاستحواذ» على بلادنا كـ «غَـنِـيـمة»؛ تاركـاً لهم حُكـم «اليمن الأعلى»، مكتفياً بـ «اليمـن الأسفـل» سهل الإنـقيـاد، وحين تم قـتـله على يـَد ثـُلة من عساكرٍ له أحباش أستبقاهم لخدمته، سيطر «المنقذون الجـُدد» بسهولة ويُسر على مـا تـبـقى من البـِلاد.
جـاء الاسـلام من الحجاز، فاستحوذ علينا تـارة بـ «رسالة» وأخـرى بـ «السيف»؛ لنتلقف بعد ذاك كافة مذاهبه وتناقضـات فقهائـه، ومن الحجاز أيضاً قَـدِم «الهادي» يحيى بن الحسين وبرفقته آلاف المقاتلين، مُعظمهم من فارس، لتحـل الطامة الكبرى بانقياد سكان «اليمن الأعلى» لـمذهبه ودولته الدينية التي اختطفت المذهب الزيدي وأفرغته من محتـواه، وحصرت الإمامة في كل من خرج من نسل «الحسن» و«الحسين» شاهراً سيفه عالماً بالكتاب والسنة، في مخالفة صريحة لما جاء به الإمام زيد نفسه.
سعى الأئمة الزيود طول فترة حكمهم لاحتلال منـاطق «اليمن الأسفل» وتركيعها بكل ما أوتوا من حقد وقوة، وقـد تصدى لهم في كل محاولة «المُنـقـذ الخارجي» من «أيوبيين، ورسوليين، ومماليك، وأتراك»، وحين تأتى لهم ذلك بمراحل متأخرة، وفي غَـفلـة من التاريخ، أهلكوا الحرث والنسل، وحولوا «الشوافع» إلى عبيد ورعايا لا حول لهم ولا قوة.
«المصـريون والسعـوديون ينظـرون إلى اليمن كمحضية يودون إمتلاكها»؛ حقيقة صادمة قالها «ترافيسكس» المُعتمد البريطاني لعدن، وبالعودة إلى نهاية أربعينيات القرن الفائت نجد أن الإمام أحمد هو أول من أستجلب الدعم والمساندة من إحدى الدولتين، وما خيار «المَحضيـة» إلا وليد ناجز لذلك الاستجداء.
عندما عَلِم الإمام أحمد بمقتل أبيه أرسل من فوره رسالة للملك عبد العزيز يُعلمه بخطورة الثورة التي قام بها من يُسَمون بـ «الأحرار والإخوان المسلمين»، وأن كلاهما خطر على العروش وعلى الـدين؛ مستمداً منه النجدة والمؤازرة، وأنه سيكون له ابناً إذا رضي أن يكون له أباً، لتصل مع وصـوله إلى مدينة حجة الدُفعة الأولى من النجدة السعودية «ذخيرة، ومال، وجهاز لا سلكي» ورسالة من الملك عبد العزيز تطمئنـه وتحثه على خوض معركة صنعاء باستبسال، واعـداً إيـاه بالمساعـدة حتى آخـر نَـفـس وريـال، كما عمل الملك السعودي على إعاقة وصول وفد الجامعة العربية إلى اليمن، ليتيح لحليفه الإمام أحمد اسقاط الحكومة الدستورية ونهب صنعاء.
في مذكراته قال المناضل أحمد محمد نعمان أن البدر أوفده من حجة إلى السعودية لحثها على التدخل وحل الخلاف الذي حدث بين الأسرة الحاكمة، إثر انتفاضة «1955»، وأنه ابلغ الملك سعود باستنجاد الإمام أحمد به، فكان رد الملك بأنه سيجهز «10,000» مقاتل للمساعدة، وحين أتت الأخبار بإخماد تلك الانتفاضة، فرح «سعود» بذلك وقال لـ «النعمان»: «أخي الإمام أحمد أنتصر على أعدائه وخرج راكباً فوق حصانه وسيفه بيده»، وفي العام التالي انضم الإمام إلى الحلف الثلاثي «المصري ـ السعودي ـ اليمني»، وبموجبه حصل على «3,000,000 » دولار من السعودية، اشترى بها سلاحاً من الاتحاد السوفيتي، في صفقه وقعها ولده البدر، وصار أكثر جبروتاً.
نظم الإمام أحمد حينها قصيدة طويلة، رداً على جميل «آل سعود» تجاهه، جاء فيها:
ولا آلو لآل سعود شكراً
جميعهم فكلهم رعاني
بعطف أو بنصح أو بمال
كذلك سلاحهم دوماً أتاني
فقد كانوا معي دوماً كراماً
وكانوا العون إذا خطب عناني
ففيصل أو سعود خير جار
وفي عبدالعزيز الجود جاني
الإمام البدر «الابن» هو الآخر عندما قامت الثورة ضده لم يكتفي بإرسال رسالة أو رسول؛ بل نفد بجلده صوب السعودية، وأعلن من حدودها وبمؤتمر صحفي أنه زاحف بمساعدة الأشقاء لاستعـادة مُلكه المَسلـوب، لتعلن السعودية بعد «الثورة السبتمبرية» بِشهر وسبعة أيام عن قيادتها لتحالفٍ داعم للإمـامة، مهمته القضاء على الانقلاب الجمهوري، وفي نجـران استقرت القيادات الملكية، وأديرت العمليات العسكرية، كما تم تدريب بعض عنـاصر الجيش الملكي فيها وفي «إيران»، الـدولة التي أنظمت إلى ذلك التحالف فيما بعد، وقدمت للإمامين مساعـدات مالية وعسكرية مَهُـولة، بل وشارك بعض جنودها في المعارك، وتم أسر عدد منهم في حرض، وأعلن عن ذلك في حينه.
في قصيدة ألقاها أمام جمال عبد الناصر
قال صالح سحلول متحدثاً عن «البدر»:
مسكين من خلى الخلافة وراه
بعد شهرين ادعاها
قد كان يحسب آل حمير شياه
من قاع جهران اشتراها
يروح له إيران عند أصدقاه
أما يمنا هو فداها
يا شعب قل للبدر ما عاد نباه
يعز نفسه من هثاها
يا محنة المخلوع يا محنتاه
من أين للعلة دواها
بعد ثمان سنوات من الحَرب تـَذمر القـادة الملكيون من تَخلي السعودية عنهم، واتهم أحدهم ويدعى «الغادر» النظام السعودي بالجُبن؛ وأنهم كانوا يقاتلون دفاعاً عنه، وأن «عبد الناصر» كان يريد السعودية لا اليمن، الأمر الذي أثار غضب الأمير سلطان «مسؤول الملف اليمني»، وطرده من الاجتماع، ثم من البلد.
استسلم الملكيون حينها للأمر الواقع، ورضخوا للمصالحة الوطنية، التي رعتها المملكة وباتفاق غير مكتوب، نهاية «مارس 1970»؛ ليعترف الملك فيصل بعدها بأربعة أشهر بالنظام الجمهوري؛ بعد أن ضمن لأغلب القيادات الإمامية الهاشمية مناصبهم ونصيبهم في النظام الجديد، وأبقى أسرة بيت «حميد الدين» في ضيافته.
بعد الثورة الخمينية «1979» انتعشت آمال الهاشميين في إعادة دولتهم، ليتوجه في العام التالي وفد رفيع من قبلهم إلى «طهران»، في زيارة ظاهرها التهنئة، وباطنها طموحات إمامية ستتبدى تباعاً، كان بدر الدين الحوثي أحد أبرز أعضاء ذلك الوفد، وقد كللت تلك الزيارة بولادة تحالف بصيغة جديدة ومختلفة، عنوانه: توارى «البدر» وعاد «بدر».
كان ذلك الوفد برئاسة الشاعر أحمد الشامي، وقد قاده حماسه بعد نجاح تلك الزيارة لمخاطبة ولي عهد المملكة، الأمير فهد بن عبدالعزيز، بأبيات شعرية، مدلولها «لسنا بحاجة لكم»؛ جاء فيها:
قل لفهد والقصور العوانس
إننا سادة أباة أشاوس
سنعيد الحُكم للإمامة إما
بثوب النبي أو بأثواب ماركس
وإذا خابت الحجاز ونجدٌ
فلنا إخوة كرام بفارس
تبعاً لذلك، تم في «ديسمبر1981» طرد السفير الإيراني من اليمن، بعد أن تبدى للحكومة نشاطه المعادي، ليبدأ النشاط التعليمي لـ «جماعة الحوثي» في العام التالي، حيث تشكلت على يد محمد بدر الدين الحوثي، وصلاح فليته نواة حركة «الشباب المؤمن»، لتعود الإمامة الزيدية وبدعم إيراني إلى تمددها العسكري الكارثي، بقيادة حسين بدر الدين الحوثي «2004»، ومن بعده أخيه «عبدالملك»، اختطف الإماميون الجدد الدولة والأرض، وهددوا أمن حلفائهم بالأمس، لتقود السعودية هذه المرة تحالفاً داعماً للجمهورية؛ عنوانه القضاء على الانقلاب الإمامي.
مما لا شك فيه أن المصلحة كانت وما زالت القاسم المُشترك لتلك الخماسية الدَخِيلة، إلا أن أبناء البلد لهم نظرة متباينة ومختلفة باختلاف مفهـوم الوطنية لـدى كل فَـريق، وإذا ما عـُدنا إلى مـوروثنا المُثقل بالدم والصراعات، لتبدى لنا ذلك وبوضوح، وقد عَمِدَّ مؤرخو اليمن الأسفل «الشوافع» مثلاً على وصم الأيوبيين ـ القادمون من مصرـ ومن بعدهم الرسوليين والعثمانيين بأحسن الصفات، فهم المُنقذون وحماة الأرض، والعرض، والدين، وبصورة مبالغ فيها أحياناً، كما فعل المؤرخ الموزعي في كتابه «الإحسان في دخول اليمن في ظل عدالة آل عثمان».
ذات الشعور طال المصريين الذين قدموا إلى اليمن في ستينيات القرن المنصرم، وناصروا الثورة السبتمبرية في مهدها، وكانوا أساس صمودها، والسعوديين الذين قدموا مؤخراً لإنقاذ اليمن من الوصايـة الفـارسيـة حد زعمهم، مع اختلاف بسيـط في الصيـاغة والتشبيـه.
ولسان حال هؤلاء قديمهم والحديث، يلخصه قول البردوني الشاعر:
وبرغمي يصبح الغازي أخي
بعدما اضحى أخي اعدى الأعادي
وبالمقـابـل كانت نظرة مؤرخي اليمن الأعلى «الزيود» عكس ذلك تماماً، فهؤلاء الأجانب كـُفـار بغاة، واليمن كانت وما زالت مَقبـرة لكـل غازٍ ومُحتل، فيما تُهَم العَمَالة لإخوانهم في الأرض جاهزة ومُفصلة، لتتنـاسب وحجم الصـراع الدائر، والأهم من ذلك تحفيز القبائل المُـواليـة على رص الصفوف، والاستعداد لقتل كـل غازٍ وعميل.
والمفـارقة الصَادمـة أن الإمام «الهادي» الذي صارت لذريته وذرية من قـدمـوا معه مِيـزة وحقوق أكثر من سكـان البلد الأصليين؛ لم يكن من وجهة نظرهم مُحتـلاً؛ بل صـاحب حـق وله ولذريته السيادة والمُلك، وما عليهم إلا الطَـاعة والإنصيـاع؛ أما إيران فهي حد وصفهم دولة ذات مشروع مناهض للمستكبرين، تناصر المظلومين في الأرض؛ وما داموا مظلومين على مرَّ التاريخ؛ فلا ضِـيـر هنا إن نـاصـرتـهم!!.
تاريخنا موصولٌ غير مقطـوع، وواقعنـا أكثـر غموضاً من مـاضينا، ومُسقبلنـا تـائـه بـلا مـلامح، عنـوان عَـريض لمعـانـاة لا تـنتـهي؛ مُمتـد كـامتـداد «مزقناهم كل مُمزق»، تلك اللعنة الأزلية التي طالت أبناء هذا البلد التعيس، ومن يقترب منه؛ وجعلتنا حديث كل لسان؛ وبنظرة فاحصة نجد أن من تحالفوا على اليمن بالأمس القريب، صاروا أعداء؛ ومن اختلفوا بسببه صاروا أصدقاء؛ ولولا «ظُلم ذوي القُربى»، واستقواء القَـوي على الضعيف، و«الأعلى» على «الأسفل»؛ وإشراك السمـاء في صراعات الأرض؛ ما أختلف وتَـدخـل هـــؤلاء.
نحن إذن، وعلى مـدى التاريخ أعـداء أنفسنـا، ووطننـا، وديننـا؛ وحيـن صـاغ شـاعر اليمن الكبير عبد الله عبد الوهاب نعمان «الفضـول» النشيد الوطني الذي يحفظه أغلب اليمنيين، كان يـُدرك ذلك جيداً، وما قـوله «وسيبقى نبض قلبي يمنيا» إلا دعـوة إلى الحب والتـأخي والوحدة، كقـلب رجـل واحـد، تتجسـد فيه روح الوطنيـة والانتماء، أما قـوله «لن ترى الدنيـا على أرضي وصيـا» ففيه تمـرد على الماضي والحاضر، واستشراف للمستقبـل، ودعـوة إلى عـَـدم الاختلاف، واستجـلاب المُنـقـذين والأوصيـاء مَـرة أخـرى.