مع كل منعطف حاسم للحرب اليمنية، تظهر دعوات السلام المختلفة، ولكن ما يثير الانتباه فى تلك الدعوات ليس صدق الطرح بقدر ما تكون دعوات مراوغة تهدف لتعزيز الألم اليمنى أكثر منها لرفع المعاناة عن الشعب اليمني.
فجل دعوات السلام حتى الآن، لا تذهب إلى فتح آفاق تنهى معاناة اليمنيين وتعزز من نبل هذا المسار، لكن تذهب إلى مسار ترسيخ واقع التشظى القائم وتمكين قوى التمرد بحجة أن ذلك أهون الشرور لليمنيين، فتلك دعوات استسلام لا نداء للسلام.
والذهاب فى هذا الاتجاه بحجة أنه سيوقف معاناة اليمنيين، هو تكريس للوهم.
وتلك دعوة تحمل وجهين لا ثالث لهما، إما أنها دعوة صادرة من أشخاص وجهات لا تدرك عمق الجرح اليمنى، ولا تعرف يقينا ما أحدثته ميليشيات الحوثى من تقسيم وتشظٍ مجتمعى مؤلم، وهى جهات صعب عليها قراءة مشهد يمنى لا يخلو من التعقيد، مشهد محمل بإرث صعب من ذاكرة مثقلة بالألم، والوجه الثانى لمصدر هذه الدعوات أشخاص أو جهات تدرك تلك الحقيقة، ولكنها تعمل ضمن مسار واضح لاختطاف الدولة، وتعميق حالة بقاء اليمن فى دوامة من العنف لن ينتهى بسهولة.
فالمشروع الذى تكرسه ميليشيات الحوثى كل يوم فى اليمن، لا يقتصر فقط فى الذهاب إلى محور إيران ورسم خريطة جديدة من شأنها تعزيز التمزق العربى القائم وزعزعة الاستقرار الإقليمى والدولى الهش. ولكنه استرجاع للذاكرة الأليمة عند اليمنيين، حيث عانى اليمن ويلات الحكم الإمامى خلال العقود الماضية وبالذات فى النصف الأول من القرن الماضى، من حكم قام فقط على عرش من جماجم اليمنيين وأشلاء الوطن، وفق رؤية دينية منغلقة، وفكرة عنصرية عجيبة، ترى الناس مجرد أشياء عليها أن تكون فقط ملح الأرض لمجموعة اصطفاها الإله.
رؤية قذفت بيمن الحضارة خارج التاريخ، لهذا عندما ثأر اليمن فى 1962 ضد الإمامة أولا، وفى 1963 ضد الاستعمار البريطانى ثانيا، واستمرت مقاومته طوال سنوات ممتدة، كان لاستعادة الحياة والكرامة قبل كل شيء، ودخل فى موال لا يخلو من الألم من أجل خلق مسار يعيده إلى العصر ويعيد له وحدته وينهى تشظيه، ولكن للأسف أعطيت الفرصة لفترات حكم لم يكن بتلك القدرة على خلق مشروع الدولة، وابتلى اليمن السعيد بمنظومة غلب عليها عدم القدرة وحماقة أوصلت البلاد إلى دائرة احتراب أخرى، ومهدت ثانيا طريق العودة لمشروع العنصرية والتشظى الذى جاء بقناع ميليشيا الحوثى هذه المرة، فكان كل هذا الخراب الذى نراه اليوم، ولنرى الأمور تعود إلى نقطة الصفر فى تغريبة ألم يمنى امتد لعقود، وليس فقط لحرب مدمرة تطوى عامها السابع الآن بكوراث لا تحصي.
ولكن تبقى أسوأ هذه الكوارث وأشدها خبثا هى تلك الدعوات التى لا تتوقف ولا تمل من طلب الاستسلام بحجة الحرص، وخطاب ترهيب مبطن يروج لوهم تفوق الميليشيات وهو وهم كبير ينافى الواقع.
وإدراكنا لتلك الحقائق لن يختطف منا دعوة السلم فمنطق العقل والحرص على اليمن يحتم توضيح الأمور والتمسك بالسلام نعم، ولكن عدم الوقوع فى فخ خطير من دعوات السلام المراوغ، فذاك أشد على اليمنيين فى الداخل من قصف ميليشيا الحوثى المتمردة. حيث الحقيقة الماثلة والواقع فى اليمن الذى يجب أن ندركه مع دعواتنا للسلام أن من قاوم ويقاوم تمرد الحوثى هو المجتمع اليمنى الواسع، وحتى عندما أنجزت مؤامرة تحييد الجيش والمؤسسات فى أول أيام التمرد وتسليم كل مقدرات الجيش وميزانية الدولة لميليشيا الحوثى، وظهرت كل دعوات الاستسلام تدعو الشعب للقبول بالأمر الواقع، وأنه على اليمنيين الرضوخ من أجل عدم استمرار العنف، انبرى الناس للمقاومة ودُحرت ميليشيات الحوثى وكانت يومها أكثر عدة وعددا من الآن معززة بعشرات الألوية والسلاح الثقيل، وقبل أى تدخل إقليمى وانكشاف قناع دورها فى زعزعة الأمن الإقليمى والدولى.
ومع ذلك دُحرت من قلب مدينة تعز فى وسط اليمن ثم عدن وبقية مدن الجنوب والشرق وتهامة، وسقط وهم التفوق العددى وغرور القوة حتى عاد تماسك الموقف الدولى ومعظم النخبة لدعم نجاح مقاومة المجتمع اليمنى للتمرد الحوثى.
ولمن نسى وضع اليمن فى نهاية 2014 فقط عليه أن يدرك أن واقع معاناة اليمنيين من ظلم وقمع ميليشيات الحوثى كانت أشد وأكثر توحشا، حيث كان اجتياح المدن وتسليم المعسكرات والتباهى بقنص المدنيين، ورفع سيوف رقصة الفرح على أشلاء المدنيين العزل يتم علنا.
ودعمت مسيرة الحوثى حينها بموجة عالية من تأييد شعبوى إقليمى ودولى، وحدهم اليمنيون كانوا قابضين على جمر رفض مشروع الإمامة الديكتاتورى وكانوا الأكثر وعيا بخطورة هذه الدعوة على تمزيق المجتمع وضرب استقرار الأمن الإقليمى.
إن جوهر دعوة الحوثى يقوم على نظرية الاصطفاء الإلهى، وهو أمر لن يجر اليمن إلى رؤية متشددة هى النسخة الأسوأ من داعش فقط، ولكنه يكرس منهجا عنصريا لا يوصف يقوم على استمرار تشظى المجتمع، ونظرية مذهبية دامية تخلق صراعا لن يتوقف، يزيد من اشتعاله واقع الجغرافيا المذهبية (ما أسميه المذهبية المجغرفة) وهى حقيقة ستزيد الصراع ولن تنتهى إلا بمشروع الدولة الجامعة للناس على أسس المساواة، دولة مدنية، دون ذلك نحن نقف على لغم متحرك.
الكاتب سفير اليمن في المملكه المغربيه
نقلا عن جريده الاهرام المصريه