وضعت هذه القاعدة في دستور البلاد، وهكذا أصبحت البلاد محكومة مطلقاً بقيادة نائب عن إمام غائب ينتظره أتباعه منذ أكثر من 1000 عام ولم يحضر بعد. نظام لم تعرفه البشرية منذ أن اجتمع الناس في كيانات اجتماعية تنظمها أعراف وتقاليد وقوانين ودساتير.
قام النظام الجديد في إيران تحت دولة الجمهورية الإسلامية، تضمن دستورها الالتزام بنصرة المستضعفين في جميع أنحاء العالم. دخلت الدولة الوليدة منذ يومها الأول في صراعات داخل حدودها وخارجها، وسخرت إمكاناتها الاقتصادية الكبيرة في تمويل حركات عقدية ومسلحة في أنحاء كثيرة من العالم، وعملت على تجنيد الطائفة الشيعية في كل الأقطار القريبة والبعيدة في تكوينات سياسية ومسلحة تأتمر بأوامر طهران، وأنفقت جزءاً كبيراً من مداخيلها النفطية على ذلك. إيران التي تمتلك قدرات علمية وثروات طبيعية هائلة وموقعاً جغرافياً حساساً، سخرت كل قدراتها لتصنيع السلاح واتجهت إلى تطوير الصواريخ وتخصيب اليورانيوم ودعم حركات التمرد والعنف السياسي والديني في البلدان المجاورة لها. اهتزَّ العقل الاستراتيجي الدولي بسبب الطموح الإيراني المريب، خصوصاً في المجال النووي، وبادرت الدول الكبرى لكبح الاندفاع الإيراني الخطير. لقد قامت دول كثيرة بتصنيع سلاح ذري، ولم يعترض أحد بما في ذلك دولة إسلامية هي باكستان، كانت السياسات والآيديولوجيا الإيرانية هي محرك الحذر الدولي من امتلاكها لذلك السلاح الرهيب. قبلت إيران التفاوض مع الدول الدائمة العضوية بمجلس الأمن وألمانيا، ثم التوصل إلى اتفاق يضبط النشاط النووي الإيراني، وحققت إيران مزايا سياسية ومالية حيث جرى رفع العقوبات عنها، واستعادت 150 مليار دولار كانت مجمدة في أميركا وغيرها من البلدان. بعد تولي دونالد ترمب رئاسة الولايات المتحدة اعترض على الاتفاق، وانسحب منه وجدد العقوبات على إيران.
اليوم تدخل إيران في حلقة جديدة من الصراع، ليس مع أعدائها، بل مع نفسها. فلقد عادت إلى تخصيب اليورانيوم بدرجة أعلى مما تم في الاتفاق السداسي، رغم الجهود الأوروبية الحثيثة التي تهدف إلى ثنيها عن تلك الخطوة. ما قامت به إيران من رفع درجة تخصيب اليورانيوم ليس سوى عناد أعمى، يضر ولا ينفع. ماذا ستحقق من ذلك علمياً وسياسياً وعسكرياً؟ أوروبا ستضطر أمام التصعيد الإيراني إلى الاصطفاف إلى جانب الولايات المتحدة، وتفعل العقوبات على إيران، وستغادر الشركات الغربية التي لا يزال لها نشاط محدود في إيران البلاد، وترتفع وتيرة العقوبات على استيراد النفط الإيراني الذي فقد أغلب أسواقه. لم تكتفِ إيران بتخصيب اليورانيوم، بل اندفعت تخصب أزماتها بقوة، لا تلوي على شيء. في خضم الضائقة الاقتصادية التي تخنق البلاد والعباد، اتجهت مؤخراً إلى مضاعفة سعر المحروقات، ما فجَّر غضب الشارع الذي يعاني من البطالة والفقر في غياب أي أمل في حلول واقعية تخفف من المعاناة، في حين يرى عامة الشعب الإيراني أمواله تغدق على الحوثيين في اليمن و«حزب الله» في لبنان وفي سوريا والعراق. استعادة شيء من العقل تتطلب اتخاد قرارات جريئة بمراجعة الاتفاق السداسي حول نشاطها النووي، وكذلك الصرف الهائل على تمددها الخارجي الذي يستنزف من جسد الشعب الإيراني بلا هدف حقيقي.
إيران تعيش فورة غضب، سقط فيها غاضبون جياع وعاطلون عن العمل، ولن تقف طالما استمرت الضائقة الخانقة، ولا حل إلا بقرارات توقف تخصيب الأزمات التي لن تصنع سوى قنابل من جموع بائسة يائسة لن توقفها حركة من يد الإمام الخامنئي أمام مريديه أو على شاشات التلفزيون. الأوطان تحتاج إلى عقل حاضر يواجه إكراهات صعبة ويمتلك الشجاعة والحكمة لاجتراح الحلول الواقعية لها. إمام في غفوة خيال الغيب لا يستطيع نائبه في القرن الواحد والعشرين إلا أن يخصب جبال الأزمات.
*نقلاً عن “الشرق الأوسط”